بعد تقديم الرعاية اللازمة

10 ديسمبر 2024
+ الخط -

لأنّه ربّنا (هو الخالق أصلاً) فلا اعتراض على حكمه، وإن لم نفهمه أو ندرك الحكمة من ورائه، وناره في الآخرة جزءٌ من مشيئته وعدله الذي نؤمن به وإن لم نحسم كُنهه، وإن اختلفنا على حقيقةِ تصوّره وأربكتنا براحات رحمته على الجانب الآخر في تعريف العدل في أذهاننا القاصرة.

لكنّ إلهًا ملفّقًا هنا اسمه "السجّان"، بدأ موظّفًا يقوم على تنفيذ القانون (ولو قانونًا قاصرًا ومعينًا، ولو قانونًا ظالمًا) لكنّه أداة تنفيذه فحسب، ومن ثم ليس له أن يمتلك نارًا (وقودها المساجين وأهلهم) ولا جنّة؛ لأنّ إرادته الشخصيّة كما هواه ليسا طرفًا في أيّ معادلة.

ولأنّ عدله، أو حتى محدوديّة ظلمه (التي يحكمها قانون أو حتى تعليمات شفاهية) محضُ وهمٍ عند الأسوياء وادّعائها وقاحةٌ وثبت بالمشاهدة والتجربة أنّها تلفيقية هائلة لا تتوقّف عند حدودها المتصوّرة للوهلة الأولى؛ تلفيقةٌ مهلكة.

الإشكال في استيعاب النار/ الحقّة، تلك التي في الآخرة، عند المؤمنين بوجودها (يكمن في غيبيّتها، والعجز عن إدراكها أو الاطلاع على ما بها، لا يعرفها غير الله والملائكة/الزبانية (الغلاظ الشداد) القائمين عليها، وهذا مفهومٌ علميًّا، لأنّنا لم نصل بعد إلى آليّةٍ نصعد بها إلى هذا) "فوق" أو تكشفُ لنا الحُجُب، ولأننا كذلك لا نعرف على وجه اليقين: أين هي؟

بيانات رسميّة غارقة في الكذب والتلفيق والوقاحة

ومن ثم أصبح مصدر معرفتنا الوحيد بها هو ما يقوله الله أو ما يُنسَب إليه في أديان المؤمنين وثقافات الشعوب، وهذه ذاتها هي الإشكاليّة/ الكارثة مع السجن وناره؛ فهو عالم غيبٍ لا شهادة، إلا لأهله من دون غيرهم، حتى من أقرب الناس لهم أو من أشدّ المهتمّين بهذا المجهول المخيف، مغلَقٌ بالكامل لا يصلُ منه إلا أخبارٌ تُستَقبلُ بعين التشكيك غالبًا أو بعين العارف بما يكتنفها من مبالغة، ولا يصل إلى الناس عنها سوى ما يُصدره السجّان ذاته من بياناتٍ رسميّة غارقة في الكذب والتلفيق والوقاحة، ولم يتوصّل القانون البشري في بلدنا إلى طريقةٍ تكشف الحُجُب ليعرف الخلقُ ما يحدث خلف أسواره العالية. كانت السجون قديمًا في وسط التجمّعات السكنيّة، ويمكن للصراعات الجماعيّة أن تُسمع، أو للأخبار والرسائل أن تتسلّل (مصادفةً أو تواطؤًا)، ولهذا تم نفيهم من السجون إلى الصحارى البعيدة على أطراف الحياة والبشر، ليتسنّى لهم فعل ما أرادوا، كيفما أرادوا، من دون فرصة للانفضاح.

وأجهضوا كلّ محاولة لخلقِ نصٍّ يسمح بالزيارات المفاجئة تفتيشًا أو متابعةً من أيّ جهةٍ لاستمرار التعمية عن الجريمة، والحفاظ على استمرارها، والزيارات محدّدة الموعد سلفًا ومقصورةٌ على ما يُمنح بموضوعه، في وجود الجلادين أنفسهم بوصفهم مراقبين/مهدّدين لشكوى الضحيّة وأداء الزائر (نيابة عامة أو مجلس قومي) وهي مسخرة تصلح لعروض "الفارص" لا لواقع البشر ومصائرهم.

والنيابة، صاحبة الحقّ النظريّ الوحيد في التفتيش والمراقبة والضبط، لا متواطئة فحسب، لكنّ من أعضائها شركاء في كلّ جريمة تحصل بين جدران السجن ومناطق الاحتجاز، سواء بصمتها أو بتعمّد إخفاء الحقائق والتعامي عن التجاوزات والانتهاكات التي تشاهدها بعينيها المغمضتين. كما سبق أن ساومني وكلاء نيابة في تحقيقات، وهددوني في بلاغاتِ تعذيبٍ، وسخروا من بلاغات انتهاكات، ولفّقوا مدد حبسي لأبقى معتقلاً (كما يحدث مع علاء والمئات غيره الآن) واتصلوا برئيس مباحث السجن ليبلّغوه لاضطرارهم الانتقال إلى "سجنه" تحقيقًا في بلاغ أهل فلان.

أجهضوا كلّ محاولة لخلقِ نصٍّ يسمح بالزيارات المفاجئة في المعتقلات، تفتيشًا أو متابعةً من أيّ جهةٍ، بهدف استمرار التعمية عن الجريمة

أما المجلس القومي، فلا معنى، لذكره أو الحديث عنه لفرط تقزّمه وانبطاح مسيّرينه، والاكتفاء بدورهم الوجودي كفرشاة تجميل لبشاعةِ السلطة وجرائمها، أمام العالم في مواجهة المعتقلين وأسرهم، والمنظمات الحقوقيّة وتقاريرها، وكلام أهل التجربة (أمثالي) وما يكتبونه كلما ضاقوا، من دون إدراكٍ أنّه لا يكفي أن تضع ورقةً على قطعة "خراء" وتكتب فيها " قرنفلة" لتنفي خرائيّتها.

ولأنّ هذه للأسف ليست رسالة حول السجون وما يحصل فيها (سنكون في حاجة إلى مجلّدات ساعتها)، إنّما عن كارثةٍ واحدة ممّا يحصل فيها للخلق/المعتقلين الذين حشرهم القدر في معسكرات التعذيب تلك، في غياب لأيّ قانون يحترم أو قاعدة يمكن الاحتكام إليها ساعة خلاف، وفي بلد غاب عنه أي ملاذٍ شريف يمكن اللجوء إليه وقت التعرّض لاعتداءٍ من دون أن يُسلّم الضحيّة للمعتدي حتى يكمل جريمته.

الإهمال الطبي جريمةً مرعبةً، وتعمّد منعها جريمةً أشدّ رعبًا، راح ضحيتها عدد مخيف، لا تتوقف أنباؤه عن مواجهتنا، إهمالاً وتجاهلاً أو غيابًا للأدوات أو الأشخاص المؤهلين للتعامل مع حالات مرضيّة بعينها أو منعًا للتصريح بانتقال المريض إلى مستشفى خارج السجن أو تعمّد حجم الخدمة الصحيّة (بما فيها الطارئة) عن مرضى نوعًا من العقاب على نشاطهم أو سلوكهم أو وجودهم أيضًا، وأيًّا يكن سبب العقاب فالنتيجة في كلّ حالٍ هي استشهادهم.

هذا قتل، وحين يحدث من سلطةٍ تجاه معارضين فهو تصفية، وتكراره تصفية منهجيّة، لكن الساكت عن مئات الحالات التي ارتقت إلى هذه الحال، بينهم رئيس جمهوريّة أسبق، سيسكت غالبًا عن غيرهم وغيرهم، وفي ظلال الإبادة الجارية على مقربة، لن يهتمّ حتى بما جاء فيها، وإن كان كاتبها حتى لحظةٍ قريبة رقمًا محتملًا من هؤلاء عقابًا على جريمة الاستغاثة، أو على جريمة الصوت، أو حتى عقابًا على جريمة الوجود.

وساعتها، يُكتفى بخبر على الهامش يقول: "الداخلية تعلن وفاة فلان بمحبسه، بعد أزمة قلبية مفاجئة، وتلقيه الرعاية الطبية اللازمة".