الرمز، العبرة وكسر الدائرة
"إذا أرادوا جعلنا عبرة، فلنكن ولكن بإرادتنا"
يُدركُ علاء عبد الفتاح فلسفة القمع ومراد القامع منها، ويُقاومها ذهنًا وسلوكًا، كما يُبشِّرُ بمقاومتها، لا بتجربته فحسب، إنّما بحواراته وكتاباته كذلك، لكن الفارق بين إدراك رمزيّتك أنت (تلك التي صنعها الظرف وكرّستها المقوّمات الشخصيّة وظروف الصراع) وبين حشر الآخرين لك في هذه الزاوية كأنّها مكانك الوحيد. ففي الأولى أنت تؤدي دورك بوعي، في الثانية يتنصّل الآخرون من أدوارهم بتخاذل؛ في الترميز شيءٌ مغرٍ للسرد، محتملُ الخلود، لكنّه نافٍ للدور كذلك. فنحن، نتحدّث عن الرموز بإجلالٍ وإلهام، لكننا لا نسعى لنصبح مثلهم (هم رموز أما نحن فعاديّون؛ لا نستطيع فعل ما يفعلونه) لا نبذل ولا ندفع ولا نملأ فراغ حيّزنا، في الترميز كسلٌ وتخاذل خفيّين، علاء رمز، لكن يجب ألا يدفع هو فاتورة الجيل، ويكتفي الآخرون (ذات الجيل صاحب الفاتورة) بمصمصة الشفاه وإبداء التعاطف، كما يجب ألا يُسلّم بوجوده معتقلاً كقدر، إذ لا أقدار في الصراع سوى ما يقرّره أطرافه ويوفّرون أدوات وآليّات إقراره ذاك.
"علاء بَطَل وقدّها"
... شكرًا لتقديرك، لكننا لا ننتظر هذا منك، كن أنت البطل واضغط للإفراج عنه، كن أنت البطل وأعلن قطع كلّ اتصال بالسلطة لحين تحريره وبقيّة "الرهائن"، كن أنت البطل وعطِّل شيئًا من صفقاتك على شرط الإفراج عن "البطل" قبل أن تكون جملتكم المكرورة القادمة "استشهد قابضًا على جمر مبادئه" وساعتها سيكون الكلّ متورّطًا في دمه، كلٌّ على قدر تخاذله.
....
"سأخرجُ من السجن، ولو جثمانًا"
هكذا كنت أردّد على نفسي في السنتين الأخيرتين من الاعتقال، كان قرارًا بإحباط مرادهم بإبقائي في المعتقل للأبد، ولو بالخروج محمولاً وممدّدًا، أو ملفوفًا في البطانيّة الميري.
أضعُ خططًا لإنقاذ جثماني من هذا المصير العَفِن، إن كان يلزم التخلّي عن كنهي لأنجو (هل ثمّة نجاة؟) لكنّي أتذكر الآن أنّ جثمان أبو ميلاد (الشهيد القائد وليد دقّة) ما زال محتجزًا منذ أشهر لدى سلطات الاحتلال، ويرفضون إطلاق سراحه.
كن أنت البطل واضغط للإفراج عن علاء عبد الفتاح، كن أنت البطل واعلن قطع كلّ اتصال بالسلطة لحين تحريره وبقيّة "الرهائن"
لعلّي أقصدُ إنقاذ روحي لتخرج هيَ، وليبقَ لهم هذا الجسد الفاني الذي سيتعفّن بعد قليل ولن يطيقوا عفنه كما لم يطيقوا تمرّد صاحبه من قبل، ولولا أنّ بعضهم بحماقة وغرور كشف عن كون هذا مرادًا لهم، لما ردّني عن التنفيذ رادّ.
"طاقتي خلصت، ومش هفضل في السجن بقيّة حياتي" قالها لي "عمر علي" ونحن في الزنزانة ذاتها، حين وجدته شاخصًا في العدم عند باكر الصباح، كأنّما أفزعه ما اقتحم عليه خاطره قبل أن أقتحم أنا عليه شخوصَه ذاك في تلك الزنزانة المقبضة.
"قولوا لـ ليلى سويف تاخد عزايا..." كانت هذه آخر الاستدعاءات، قلتُ وقتها، وأنا بعد معتقل: علاء إذا قال فعل، لا يهدِّد ولا يلوّح ولا يثير فزعًا، وهذا ما يعرفه يقينًا كلّ من يعرف علاء، ولو معرفة عابرة (من يضمن ألا تعاوده الفكرة بعد تأكّد ألا حرية حتى بعد انتهاء كامل المحكوميّة الجائرة؟).
ليست بالأماني تسير الحياة، وقد يفاجئنا الواقع بما هو أسوأ
كذلك ليلى، إذا قالت فعلت، وقد قالت إنّها مضربة عن الطعام لحين الإفراج عن علاء أو موتها، وقد وصلت لليوم الثالث والخمسين وهيَ ما زالت تدرّس طلابها في الجامعة، وتزور أصدقاءها المرضى أو تودّع الصاعدين منهم، و"تطلّع لسانها" لي والأصدقاء مع كلّ إبداء قلقٍ مضاعف، لتؤكّد أنّها ما زالت بخير، أتمنى أن يظلّ تطليع لسانها مستمرًّا، وأن تخرجه لعلاء على باب المعتقل لحظة خروجه، لكن ليست بالأماني تسير الحياة، وقد يفاجئنا الواقع بما هو أسوأ: لا يصمد جسد ليلى أطول، فتسقط، ولا يصمد علاء بعد تلك الضربة فيسقط هو الآخر.
لكن ما الذي يضطرّ ليلى إلى الإضراب عن الطعام أصلاً لتضمن مجرّد تنفيذ قانون جائر؟ فقدان طاقة ربّما، رفض لاستمرار هذه المهلكة التي تأكل العمر والعائلة، احتجاج على الوضع القائم/القاتم، رفض للتطبيع مع وجود ابنها للأبد معتقلاً، أليس هذا ما تفعله الأمّ لإنقاذ ابنها "تلك مهنتها الأثيرة"، حين يتيقّن لها فقدان كلّ أمل آخر في قانون أو سياسة أو دبلوماسيّة أو عقل في موضع قرار؟ أن تقدّم حياتها هيَ ليستعيد حياته!
….
"ودائريّة الصراع لا تعني قدريّة مساره"
وُلدت منى وسيف في المعتقل، تمامًا كما وُلِدَ خالد وكبر وعلاء في المعتقل؛ تدورُ دائرة البطش والنضال، وتعيد نفسها على اختلاف الحَمَلة (حملة السيف وحمَلَة الدرع)، لانهائيّ في معركة الحقّ والباطل (السلطة والثورة) ولا حسم، وما يبدو حاسمًا في لحظة هو في حقيقته إضافة إلى رصيد معسكر أو خصم منه في مجمل الأعمال أو دافعًا لإعادة إنتاج الصراع في كلّ مرحلة من عمره الممتدّ؛ سيستمرّ النضال/التمرّد وستستمرّ السلطة/القمع، في عمليّة تدافع (بمعنى "ولولا دفع الله الناس"، وبمعنى ديناميكيّة) أبديّة، دور السلطة استغلال كلّ من تحتها، انطلاقًا من تصوّر فوقيّ في التراتبيّة التقليديّة بذهنها، وسحق كلّ شبهة احتمال للتمرّد قبل أن ينمو ويتعاظم، وفي المقابل ستستمرّ حركة النضال دفعًا لأسقف القمع وتفتيتًا في جدران السلطة، وكلّما سقط واحدٌ من هنا استبدله المعسكر بسواه، دون أن ينفي ذلك عن المنتمين إلى كلّ معسكر مسؤوليّتهم الفرديّة في اللحاق بالركب أو ملء الفراغ.
على أحدٍ، أو على الكلّ، مسؤوليّة كسرالدائرة في لحظتها البائسة تلك، لا نهائيّ في الصراع صحيح، لكنّ انغلاق حلقةٍ دون تخليقِ مكافئتها يعمّقُ الهزيمة ويرسّخها، وربّما يُعيد إنتاج مرحلة القمع بصورة أشدّ توحّشًا وأطول أمدًا، وإن لم يكن ثمّة أمل في حلّ، فليكن تأزّمًا مقابل تأزّم.
وهو ما تحاول ليلى بجسدها وحياتها، فعله الآن، ولا يجب أن تفعله وحيدة، مطلقًا.