بايدن وخطاب الوداع... نفاق وتناقض
محمد مصطفى جامع
ودّع الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي يُوشك على نيل صفة "الرئيس المنتهية ولايته" الجمعيّة العامة للأمم المتحدة بخطابٍ مُفرطٍ في الكذب والنفاق والتناقض، ما يجعله الرئيس الأميركي الأكثر نفاقًا وكارثيّةً على مدى التاريخ.
ففي خطابِ الوداع الذي ألقاه بايدن أمام الدورة الـ79 للجمعيّة العامة، حثّ قادة العالم المجتمعين على "التوقف عن تسليح طرفي النزاع" ووضع حدٍّ للحربِ في السودان. وقال: "يجب على العالم أن يتوقف عن تسليح الجنرالات ويتحدث بصوت واحد، ويطلب منهم التوقف عن تدمير بلادهم والتوقف عن منع المساعدات عن الشعب السوداني وإنهاء هذه الحرب فورا".
وفي شأن حرب غزّة، قال بايدن إنّه "حان الوقت لإتمام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وإعادة الأسرى"، واصفاً هجوم حركة حماس في يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023 بأنّه "فظائع"، ولم يخف دعمه لإسرائيل بالقول إنّ "أي دولة من حقها أن تضمن عدم تكرار أهوال 7 أكتوبر التي ارتكبتها حماس".
وبينما حثّ بايدن قادة العالم على وقف تسليح طرفي الصراع في السودان يوم الثلاثاء، كان في اليوم السابق يستقبل بحفاوةٍ بالغةٍ رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد، حيث منح بلاده صفة "شريك دفاعي رئيسي للولايات المتحدة"، متجاهلاً كلّ النداءات التي طالبته بممارسةِ ضغطٍ على بن زايد المموّل الأوّل لمليشيا "الدعم السريع"، مُشعلة الحرب في السودان بهدف الاستيلاء على السلطة (كما يقول العديد من المؤسّسات الدولية الموثوق بها مثل معهد السلام الدولي ومرصد الصراع بجامعة ييل الأميركية)، وبعدما فشلت المليشيا في مخطّطها حوّلت حربها ضدَّ الشعب السوداني الأعزل، قتلاً واغتصاباً ونهباً وطرداً من المنازل.
وقبل يومين فقط من استضافة بن زايد في المكتب البيضاوي، وجّه خمسة أعضاء في الكونغرس الأميركي رسالةً إلى الرئيس بايدن طالبوه خلالها بإثارة تسليح الإمارات لقوات الدعم السريع مع بن زايد، مشيرين إلى أنّ الدعم الإماراتي للمليشيا يتعارض مع الجهود المبذولة لوقف القتال في السودان.
استدلّ أعضاء الكونغرس (وجميعهم ديمقراطيون) في رسالتهم بالتقرير الذي أصدرته لجنة خبراء الأمم المتحدة المعنية بالسودان، والذي أكّدت فيه مصداقية الادّعاءات بأنّ الإمارات قدّمت دعماً عسكرياً لقوات الدعم السريع عبر مطار أم جرس، المدينة التشادية المحاذية لإقليم دارفور السوداني.
كافأ الرئيس الأميركي بن زايد بمنحه صفة شريك دفاعي رئيسي للولايات المتحدة، ما يعني إعطاءه ضوءاً أخضر لإرسال المزيد من الأسلحة لقتل السودانيين
وأكّد كلّ من براميلا دجيابال، باربرا لي، سارا جاكوبس، إلهان عمر، ودان كيليدي، أنّ "الدعم السريع" ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، وتطهيراً عرقياً في السودان، مطالبين بايدن خلال اجتماعه مع الإماراتي بإثارة هذه التقارير المُثيرة للقلق، وحثّه على وقف الدعم لقوّات الدعم السريع.
ليس هذا فحسب، بل إنّ النائبة سارا جاكوبس، وهي عضو بارز في لجنة الشؤون الخارجيّة في مجلس النواب مضت أبعد من ذلك، إذ كتبت منشوراً على منصّة إكس قبل ساعات من اجتماع الرئيس بايدن مع نظيره الإماراتي، حثّت فيه حليفها على استخدام النفوذ الأميركي الكبير لحمل الإمارات على وقف تمويلها للدعم السريع وإطالة أمد الحرب في السودان. وأضافت بقولها: "يمكن منع استمرار الموت والدمار والمعاناة في السودان".
وقبل تحرّكات النواب الديمقراطيين بيوم واحد، نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية تحقيقاً مطوّلاً، تناول بإسهاب تورط دولة الإمارات في تقديم الأسلحة والذخائر والمُسيّرات للدعم السريع عبر الحدود الغربية تحت غطاء العمل الإنساني.
كان من الواضح أنّ إدارة الصحيفة اختارت هذا التوقيت بدقة تزامناً مع زيارة بن زايد لإحراج الرئيس بايدن وحثّه على التدخل، غير أنّه تجاهل كلّ تلك النداءات حتى من حلفائه المقرّبين، وكافأ بن زايد بمنحه صفة شريك دفاعي رئيسي للولايات المتحدة ما يعني إعطاءه ضوءاً أخضر لإرسال المزيد من الأسلحة لقتل السودانيين.
استغلّت وسائل الإعلام الإماراتية هذه الفرصة أيمّا استغلال، فأخذت تروّج أنّ صفة شريك دفاعي رئيسي أقوى من صفة "حليف رئيسي من خارج الناتو" التي منحها بايدن في 2022 لقطر، وقبل سنوات مُنحت للبحرين.
بعدما فشلت "الدعم السريع" في الاستيلاء على السلطة حوّلت حربها ضدَّ الشعب السوداني الأعزل، قتلاً واغتصاباً ونهباً وطرداً من المنازل
يجزم الأستاذ المساعد في قسم الدراسات الأمنيّة في كلية كينجز في لندن، أندرياس كريغ، أنّ صفة "شريك الدفاع الرئيسي" هي خطوة أقل من "الحليف الرئيسي خارج الناتو" الممنوح لكلِّ من البحرين وقطر، ويستدرك في منشور له على منصّة إكس، بأنّ كلّ هذه التصنيفات هي سبل للشركاء الخارجيين لاستثمار المزيد من الأموال في قطاع الدفاع في الولايات المتحدة، وأنّ الإدارة الأميركية لا تقدّم سوى القليل جداً من الالتزامات الأمنيّة ذات المغزى لمن يتم منحهم التصنيفات.
لم تتضح حتى الآن دوافع الرئيس الأميركي من مكافأة أبوظبي بهذه الصفة، وعمّا إذا كان الأمر يتعلّق بتطبيع الأخيرة مع الاحتلال وعملها على الدفاع عن السرديّة الإسرائيلية لما بعد عملية طوفان الأقصى، أو ما إذا كانت الخطوة متعلّقة بتشجيع الإمارات على التخلّي عن تعزيز علاقاتها مع الصين.
في شأن غزّة نجد أنّ بايدن في خطابه الأخير أمام الجمعيّة العامة (بحكم قرب انتهاء فترته الرئاسية) قال: "حان الوقت لإتمام اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة وإعادة الأسرى"، متظاهراً بالحزن على أحوال المدنيين المحاصرين في القطاع وسط القصف الإسرائيلي، بينما في الوقت نفسه مرّرت إدارته عددًا كبيرًا من صفقات السلاح للاحتلال بمليارات الدولارات لمساعدته في حرب الإبادة ضد سكان غزّة.
من المؤكد أنّ بايدن وهو يودّع فترته الرئاسيّة سيدخل التاريخ باعتباره الرئيس الأميركي الأكثر كارثيّة، إذ سجّل رقماً قياسياً جديداً في تناقض الأقوال والأفعال، والنفاق، وقلّة الكفاءة وضعف الشخصيّة وعدم القدرة على تحقيق أيّ إنجاز يُذكر.