انفجار مرفأ بيروت في لوحة "بلعربي"

01 مارس 2023
+ الخط -

"الموت في رؤوسنا هو دائماً موت شخص آخر" (بثينة العيسى).

في كلّ وقت، كان الموت فناً وجزءاً من حياة الناس في مختلف العصور، فخرجت اللوحات الفنية التشكيلية تصوّر الموت في أشخاص فارقوا الحياة. والآن بات واضحًا أن الموت يعود مجدداً، يوم سقط شهداء انفجار مرفأ بيروت.. لذلك كان بدء الفن ببدء الموت، والبادي أظلم، فالعين بالعين والموت بالفن!

يتحوّل الإنسان بسبب الموت إلى فكرة مطلقة بعد أن كان إنساناً زمنياً يشارك في أحداث الحياة اليومية، وهذا التحوّل يجعل للموت هالة جمالية، لأنه اشتمل بكليته على جزئيات مفكّكة كانت تقاومه عبر السنين حتى ضعفت أمامه فابتلعها وتحقّق واقعيًا!

الموت بهذه الفنيّة يُحقّق الصورة المثالية التي تتمثّل بالمشاركة في العقل الأزلي القابع في الموجودات بذاتها لتتكوّن حقائق الأشياء، فتصبح صورة الموت محايثة لنا من خلال مشاركاتنا للميت أحداثنا، وكأنه بيننا مثل الذين يناجون الميت لعظيم قدره عندهم، فصورة الموت تنتقل من عالمها العلوي المفارق، إلى عالمنا السفلي المحايث، وهذا بفضل الصورة التي أصبحت مطبوعة للميّت بإدراكنا، وبطبيعة الحال سيشكل هذا تأسيساً لعقل مختلف عند القريب من الميت، فيصبح الموت سبباً لتغيير أفكارٍ، ما كانت لتتغير لولا هذا الحدث الجمالي. 

الفنان الجزائري شمس الدين بلعربي، جرّب الرسم المباشر وطوّع العديد من التقنيات الطباعية والفوتوغرافية لإنجاز لوحة بمواصفات إنسانية، كما ظلّ حريصاً من خلال تناوله ضحايا مرفأ بيروت فرداً فرداً على ذاكرة وصورة الضحايا، وليس على أرقامهم الرياضية أو الإخبارية المحايدة والتجريدية، فالشهداء في لوحته ليسوا رقما يذكر بل صورة ذاكرة حيّة نابضة لذويهم ومحبيهم، وأرشيف فني يرفع بشاعة الموت إلى مرتبة فنيّة الموت. 

الصورة
شمس الدين بلعربي
(لوحة للفنان الجزائري شمس الدين بلعربي)

إنّ الألوان التي اعتمدها الفنان كانت الرمادي الذي هو نتاج المتضادين الأبيض والأسود، مضافاً إليه لون آخر بتدرّجاته، لون صارخ صاخب، لون سيكون في الغالب هو الأكثر حضوراً بوجود تضاد بين الأبيض والأسود، هذه العلاقة الناجحة التي أوجدها الفنان بين الألوان، تبدو وكأنّ الفنان يحاول إيجاد علاقة فيزيائية بين هذا الخليط من الألوان. وقد وفّق في هذا الطرح، فقد بدت جميع اللوحات مضمّخة بدرجة لون واحد بدون أن تدفع بك إلى الملل، بل تحرّضك للتقصّي والبحث عن المخبّأ بين الدرجات والظلال؛ عن هويات الضحايا لتبرز لنا اللوحات جانباً إنسانياً، إذ تعطي كلّ شهيد فردية غير أنانية بل فنية/ إنسانية للتفرّد في صورة وذاكرة الضحيّة، وفي هذا تحدّ لسلطة الموت، فالموت في مرفأ بيروت لم يعرف شخص الموتى ولكنّه حصد أرقامهم. 

الشهداء في لوحة الفنان شمس الدين بلعربي ليسوا رقما يذكر بل صورة ذاكرة حيّة نابضة لذويهم ومحبيهم، وأرشيف فني يرفع بشاعة الموت إلى مرتبة فنيّة الموت

قد يبدو واضحاً أنّ الهدف من لوحات البورتريه هذه تحقيق تشابه مع الأصل، بحيث يمكن التعرّف على صاحب البورتريه بمجرد رؤيته، ما يُضفي بعدا واقعيا وأثيرا على المتلقي، فينتابه شريط ضخم حول حياة كلّ ضحيّة وكيف وصل بها الأمر لتكون غائبة في الواقع وحاضرة في واقعيّة اللّوحة.

إنً لوحات الفنان الجزائري شمس الدين بلعربي صاغت احتماليّة أو فرضيّة أنّ كل إنسان منّا من الممكن أن يكون ضحية؛ فالموت في رؤوسنا هو حتمية موتنا أو موت عائلاتنا، وانطلاقاً من هذه الفرضيّة اعتنى الفنان بالفرديّة الفنيّة لكل ضحيّة شاعراً بآلام الفقد وكأنّه فرد من عائلاتهم، يرثيهم ببورتريه واقعيّة.

 بالإضافة إلى ذلك، تصوّر لوحاته الموت وهو يحدّق في الأحياء بإيماء مسرحيّ يدفع الناس العقلاء نحو الاقتصاص لهم تخليداً لصورة وذاكرة البورتريه؛ فالعدالة العدالة للرابع من آب!

مصطفى أمين
مصطفى أمين
كاتب وشاعر من لبنان، حاصل على بكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من الجامعة اللبنانية. مهتمّ بالفكر والأدب والفنون والمسرح.