الكتابة الجديدة... مشهد بوليوودي
لقد أفاض الفيلسوف الفرنسي، جان بول سارتر، في الكتابةِ عن وظيفةِ الأدب الاجتماعية، والعلاقة الجدلية بين الكاتبِ والقارئ، وصلةِ الأدب بالعمل، وعلاقة حرّية الكاتب بحرّية القارئ، ومسؤولية الأديب عن الكتابة أو عدم الكتابة. كما سخر من فكرةِ الكاتب الذي يكتب لنفسه، لأنّ العمل الفنّي (ومن وجهة نظره) لا يتحقّق وجوده إلا بالقراءة أو بالصلة بين العمل وقارئيه، ولهذا يقرّر أنّه ليس ثمّة فنّ إلّا للآخرين. فلا بدّ من تثبيت مفهوم شيوعية ومُشاعية المعرفة بدلاً من نخبويتها الليبرالية أو اليسارية التقليدية المتزمّتة.
إنّ المشهدية اليوم عمادها الاستيلاب الفكري والثقافي، حيث يُطلّ علينا كتّاب وشعراء يستخدمون الأسلوب السوريالي في موادهم، ولكن بصورةٍ مشوّهةٍ للمفهوم الذي جاء به المصطلح. فالسوريالية، وبصورةٍ تقريبيةٍ؛ هي سروال يتّسع لاثنين من المعاني أو أكثر، ولكنّه بالطبع ليس كما يُستخدم اليوم، أي في جعله سروالاً مُمزّقاً فارغاً تُضيع منه وفيه المعاني. وهنا، من الضروري لأيّ كاتب أن يكتب للناس، للمجتمع، للحياة، وليس لنفسه بهيئةٍ أنانية، وبما يدلّ على فجاجةِ وإلحاحِ وجودِه وسطَ المشهد الثقافي بشكلٍ يائسٍ ومريبٍ. فحين يكتبُ الكاتب بلغةٍ هوامية (سحرية) وهامية (خادعة، غير أخلاقية لغوياً)، لا هدف ولا مغزى منها، سوى تعقيد اللغة وسيمائياتها، ودالها ومدلولها، ليجعل من نفسه كاتب صعب الفهم (النخبة) أو "حداثي"، فالمشكلة حينها تكون في الكاتب نفسه، وليس في القارئ، أيّ قارئ، والذي يحاول أن يقرأ ليفهم ويستفيد ويُفيد، ولا سبيل لهذا كلّه.
إنّ الطريق إلى الكتابةِ هو وسيلة الكاتب إلى القارئ، وليست غايةً سوريالية. ولا يحقّ لأيّ كاتب وهمي كهذا أن يُدين القارئ بعدمِ الفهم، بل هو نفسه متّهم بخرقِ الأخلاقيات والمقاصد اللغوية، والعبث بها، وتحويرها عن قصديتها الأصيلة. إنّ اللّغة وبحكمِ التخصّص اللّغوي/ الألسني وُضِعت للإفهام، وأيّ خرقٍ يتعدّى غايةَ الإفهام (إن كان اتجاهًا لغويًا معاصرًا أو أفراداً) صارت معه اللّغة كرموزِ الحيوانات بين بعضها البعض.
الكتابة مسؤولية ومهمّة تتطلّب توجّهاً جاداً وتفانيًا في خدمة المجتمع والحياة
أيضاً، هناك نغمة مزعجة في الكتابة، فبعض الكتّاب يستخدم الشكلانية العربية أو الروسية في النص أو القصيدة، بحيث يكثّف الكاتب في مادّته الصور البيانية والمُحسِّنات اللفظية؛ من استعاراتٍ، وكناياتٍ، وتشابيه، وتوريةٍ، وجناسٍ، وسجعٍ، بما يجعل النص في نهاية المطاف لوحةً تشكيليةً، جماليةً، فارغةً من المعنى، مع إطارٍ مذهّبٍ، وإنّما دون مغزى واضح. فيفقد النص ذلك، بنيويته كوحدةِ بناءٍ متماسكة مع الأطر الأخرى. وهنا يُطلّ علينا من لديهم هواية الاطلاع على الثقافة، فيكتبون شيئاً يصحّ لأن يكون مقطوعة من مذكراتهم اليومية، أو الإفصاح الشخصي المدوّن، أو تعليقات وخواطر سريعة، ليمْسوا أدباء وشعراء، فتُقام لهم المناسبات وتطلق عليهم الألقاب..
هنالك أيضًا مُوضة معرفية عند بعضِ الكتّاب، تُعرف بعدمِ الاتساق في الأنساق؛ حيث تأتي موادهم متناقضة مع جوهرهم الروحي والسلوكي.. إنّما سُمّي الشاعر شاعراً؛ لشعوره بنبضِ الآخر وجمالياته، وكذلك الأديب؛ إذ إنّه يتأدّب في أسلوبه بحضرةِ المجلس. وكذلك الفيلسوف؛ فهو يحبّ الحكمة في محبّة الآخر، فلا يجعله يعاني. وكذلك المحامي، فغايته الحرص على عدالته مع الآخر بكلِّ حميّةٍ وشهامةٍ، ودونما تلاعب أو تشويه للحقائق. وكذلك المسرحيّ، فإنّه يسرح في ملكوت الإنسان.
يظهر المشهد الثقافي اليوم كمشهدٍ بوليوودي، حيث يتناول الكتّابُ والشعراءُ مواضيعهم بأسلوبٍ يميل إلى التعقيد والإبهام، أو السطحية والإثارة، بدلاً من التعمّق والمغزى الحقيقي. ما يعني أنّ تحدّيات الكتابة الجديدة تتطلّب العودة إلى قيم الأدب والثقافة، وتعزيز الصلة بين الكاتب والقارئ، وتجاوز التعقيد أو السطحية والموازنة بين المضمون والشكل. فالكتابة هي مسؤولية ومهمّة تتطلّب توجّهاً جاداً وتفانيًا في خدمة المجتمع والحياة.