الوحدة... شبح أم رغبة؟
عزيز أشيبان
من الطبيعي جدًّا أن يميلَ الإنسان بغريزته إلى التعايش والاختلاط والبحث عن المؤانسةِ ونسج علاقاتٍ إنسانيةٍ قائمةٍ على الودِّ أو النسب أو المصلحة. فهو يعيش ويتحرّك في محيطه الاجتماعي وفق غرائزه البدائية، ويتفاعل بإيجابيةٍ أو سلبيةٍ، مع كلِّ ما يحدث داخل منطقةِ انتمائه، حيث يحضر الآخرون، بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة، في جميع تفاصيل وتطوّرات حياته، إذ تدفعه الحاجة والضرورة إلى الاستعانةِ بخدماتهم من خلال عملياتِ أخذٍ وعطاءٍ مُتبادلة، تكتنفُ أحيانًا من المشاعر والأحاسيس ما يستعصي على الحصرِ والمقاربة.
ومع ذلك، يجدُ هذا الكائن البشري نفسه وحيدًا، غريبًا، مطاردًا بقوّةٍ من الشعورِ بالوحدة الذي يُلازمه ويرافقه على امتدادِ مراحل حياته رغم التذبذب في حضوره المادي، ممّا ينحو به إلى الإنفاق من الجهد والمال الشيء الكثير من أجل الفرار من شبحِ ظهور هذا الشعور المرير وجبروت حضوره الذي يستفرد بذهنيّةِ ونفسيّةِ الشخص ويسطو على طريقةِ تفكيره ويُدلي به إلى ما هو غير متوقّع أو محسوب. وهنا، نظنّ أنّ كلّ شخص لا يألو جهدًا في إبقاءِ هذا الشعور الرهيب في مجال اللامُفكّر فيه، غير أنّه ينبعث دون سابق إنذار ويأتي على الأخضر واليابس من الذاتِ البشرية.
هل نحن بصدد شعورٍ دفين يستيقظ وينشط من وقت لآخر؟ أم هو شعور دائم النشاط والاشتغال، نتحايلُ عليه بالتغاضي والتجاهل والإعراض عن مواجهته؟
يستعصي تحديد نوعية هذا الشعور أو مقاربة حقيقة ماهيته، إذ يختلف عن العزلة والانعزال، وربّما يقترب من الشعور بالاغتراب والضياع. نحاول التعامل معه باعتباره حالة ذهنية ونفسية تشعر فيها الذات بالغربة وعدم التجانس والتوافق مع كينونتها أولًا، ومع الآخرين والعالم الخارجي في المقام الثاني. في الواقع، عندما لا تتعرّف الذات على حقيقةِ دواخلها، أو لا تستطيع التعرّف على طموحاتها، أو الاستجابة لنداء ميولاتها، تشعرُ بالضياع والانفصام عن هُويّتها وتنحرفُ عن الدرب الصحيح المفقود.
في الوحدة تتمثّل حقيقة افتقاد الذات، بينما في العزلة تتمثّل حقيقة افتقاد الرفقة أو الاستغناء عنها
وأمّا على المستوى الخارجي، فيسطو الشعور بالوحدة على الذات عندما لا تستطيع الانغماس في تفاصيل بيئتها والتعايش مع أقرانها ومشاركة أفكارها وهواجسها ومشاعرها بطريقةٍ تلقائيةٍ وصحيّةٍ لأغراضٍ إنسانيةٍ صرفة.
بين الوحدة والعزلة؟
نميل إلى القول إنّه في الوحدة تتمثّل حقيقة افتقاد الذات، بينما في العزلة تتمثّل حقيقة افتقاد الرفقة أو الاستغناء عنها. كيف ذلك؟
قد يميل الكائن البشري إلى العزلةِ من أجل التدبّر ومراجعةِ ومساءلةِ الذات، أو حمايتها من الطاقة السلبيّة، ومن كلّ ما قد يلحقه بها المحيط الخارجي من أذى. نتحدّث في هذا المقام عن نزوعٍ اختياري بامتياز يرجو صاحبه الارتقاء والوقاية والحماية الذاتية. غير أنّ الشعور بالوحدة ينزع منه، ويسلبه الحق في الاختيار والقرار، لذلك تتعدّد السُّبل التي يسلكها الإنسان للهروب من شبح الوحدة، إذ هناك من يرجو بناء علاقاتِ صداقةٍ بحثًا عن أنيسٍ في وقتِ الفراغ، وهناك من يتزوّج بحثًا عن مؤنسٍ في البيت، وهناك من ينجب تحسبًا لأيّامِ تقدّم السن والبحث عن معينٍ خلال مرحلة الضعف، ومع ذلك يظلّ الشعور بالوحدة قويًّا، ولو في حضور جميع الأحبة، من عائلةٍ وأصدقاء ومعارف، ويبقى الإنسان مطاردًا، مستهدفًا، وضعيفًا أمام شعورٍ رهيبٍ، قاتلٍ، يُحيل على عجزِ الذات وعدم قدرتها على تحقيق الاستقلال النفسي والذهني والعاطفي وتقديم ما هو مفيد، لتظلّ بذلك رهينة عناصر لا تستطيع تحديدها وتعريفها.
ربّما وجب التعامل العقلاني والإيجابي مع هذا الشعور وتقبّله بصفته مُعطى قابلاً للترويض والضبط، من خلال الاشتغال على الجانب النفسي والذهني، وتغيير طريقة التفكير، والإقبال طواعية على خلخلةِ بعض المفاهيم والتصوّرات وبناء بعض العادات الصحيّة من قبيل القراءة والتدبّر، من خلال الاشتغال على الجانب الروحي، واكتساب حبّ الذات، والاستقلالية، وعدم التعلّق بالآخرين، وعدم الانكباب على البحثِ فقط عن إشغالِ الوقتِ، هروبًا من الوقوع في براثن الوحدة، بل مواجهتها بكلّ شجاعةٍ وعزيمة.