النساء واللون
في الحافلة الضيقة يبرز الاختلاف واضحاً، المسافات طويلة، والتلاصق أمر حتمي، تستطيع التعرف إلى الغريب من لهجته، من زيه، من سؤاله القلق عن العنوان المقصود قبل استقلال الحافلة وعند كل توقف.
ربتت المرأة الغريبة على كتفي وسألتني سؤالا غريبا: "كندرتك حمرا"؟ بالفعل كنت أرتدي حذاء أحمر، وهذا واضح لا يستدعي السؤال، لكن مضمون سؤالها الفعلي كان بوابة لحديث مطول ولشجون تتداعى وتتواصل لتشكل سردية لم نفكر فيها يوما!
قطعنا كل الحبال التي يمكن ربطها مع الآخر حين قمنا بتثبيت صورة غريبة، بعيدة، غير مفهومة عن الآخر، للمرة الأولى كان للون عبر حذاء نسائي أحمر شرف التعارف ما بين سيدتين تختلفان ظاهرياً في كل شيء، لكن في العمق كان التشابه كبيراً جداً ومتوافقاً لحد بعيد، تشابه اعتدت عليه الجغرافيا بكل ما تفرزه من عادات وتقاليد وتوصيفات وأحكام أخلاقية وقيمية.
صرّحت السيدة بأن الألوان الساطعة ممنوعة في منطقتها، وصرحت أيضا بأن الجلابية هي اللباس الرسمي حتى داخل البيوت، لأتذكر هنا حلما بسيطا لسيدة تعيش في بيت العائلة، حلم لا يتخيله عاقل: أن تمتع بارتداء قميص نوم خفيف وبنصف كم!
هي الأحلام المخنوقة، جلابية داخل البيت، لأن دخول البيت مشاع للجميع! تبرز هنا أسئلة كبيرة وكثيرة، لماذا يرتدي الرجال سراويل قصيرة بكل حرية؟ لماذا لا يعاقبهم أحد إن خلعوا كنزاتهم وارتدوا شيالات بلا أكمام، يبرز سؤال التهم الموجهة للنساء لأنها ترتدي عباءة ملونة، أو حذاء صيفياً غير أسود، وكانت الصدمة الكبرى عندما واجهتني السيدة بقول هو فعليا خلاصة حكم: أن ترتدي سيدة حذاء أحمر في منطقتنا يعني أنها فاجرة!
بصمت تقبلت التهمة لأني أعي تماماً أن تلك التهمة هي حلمها الموؤود وأحلام نساء كثيرات غيرها. لم تكن تقصد اتهامي، بل كانت تعكس رغبتها المدفونة في الأعماق، قالت لي ساخطة: "حتى في غرفة النوم لا توجد لدينا أحذية ملونة!"، هكذا إذن تُختزل المساحات المسموحة لسطوع اللون فيها في غرف النوم المقفلة، حتى هناك لا يحق للون أن يتوافر على شكل حذاء، جل المسموح هو قميص نوم، أو تفريعة ملونة بألوان يفرضها سوق تلك المنطقة وذوق المنتجين وأصحاب المعامل والبائعين بالمفرق أو بالجملة.
هنا يصير اللون تهمة، والتهمة متداولة ومثبتة بحكم فائض القوة الرادع للنساء من حريتهن باختيار ألوان ملابسهن
الأسود سيد الأوان والألوان، يعتبر التاجر أو البائع أن تجارته خاسرة حين لا يتمكن من شراء بضاعة كلها باللون الأسود أو البني وتدرجاتهما، لا بائع يحب الخسارة، صار اللون الداكن عرفا وقانونا ولتذهب كل أمنيات النساء إلى الهاوية، هنا يتناسى الرجال كل الألوان التي رأوها في المدينة، في بقعة جغرافية قريبة إليهم، تعاد عيونهم على السواد والقتامة ولا يقبلون بسواها.
هنا يصير اللون تهمة، والتهمة متداولة ومثبتة بحكم فائض القوة الرادع للنساء من حريتهن باختيار ألوان ملابسهن. تقول سيدة إن طفلها قال لها ذات يوم: "أمي ليش أنت كلك سودا؟". كان يقصد ملابسها، جلابيتها وعباءتها ووشاحها وأحذيتها وحتى جلابية البيت وحذاء البيت أيضاً.
تكتسب النساء ألوان ملابسهن الداكنة، تتداخل الصورة ببعضها لتصبح النساء متطابقات بشدة مع ألوانهن، يصير السواد أو الألوان القاتمة اختزالاً لوجود النساء وحضورهن في البيت أو في الشارع، وتبقى غرف النوم إن توفرت استقلاليتها للبعض لغزاً يظنه البعض زاهي أو ملوناً لكنه في العمق نسخة عمياء عن كل السواد الداكن المحيط والراسم لحيوات النساء وحضورهن في الحيز العام أو الخاص.
علاقة النساء باللون علاقة مترابطة ومتينة، تكاد أن تشكل هوية بصرية خاصة بالمكان، كل المكان الذي تفتقر فيه النساء لحق الاختيار، حتى لو كان مجرد حذاء ملون في مساحة متاحة.