"المَمْحوون"

16 اغسطس 2024
+ الخط -

حتى نهاية شهر تموز/ يوليو الماضي، مُسِحَت من سجلات القيد المدني في قطاع غزّة أكثر من خمسمائة عائلة. مُحِيت تماماً، لم يتبق منها أحد. بعضُ العائلات الأخرى تبقّى من أفرادها شخص واحد أو اثنان. شخص لهول الكارثة قد يتمنّى لو لم يبق حيًّا، كما كنت لأفعل.

اخترعتْ مخيّلة الشر الإسرائيلية ذات الشهوة الإباديّة، نوعاً جديداً من المجازر: "مجازر العائلات". يا لرنين هاتين الكلمتين بتجاورهما الغريب: على الأذن، على العقل، على القلب. 

تقولُ في نفسك إنّك اعتدت أن تسمع كلّا من المفردتين المكوِّنتين لهذه الجملة العصيّة على التصديق، وحدها، في عالمين منفصلين تماماً، بل نقيضين: عالم الحياة الفوّارة، الخصبة، الصاخبة، وعالم الموت المتجهم، الأخرس والأمضى في توحّشه وبدائيته المتعصرنة. 

مسابح للعائلات. مطاعم للعائلات. الدخول فقط للعائلات. متنزهات للعائلات. أفلام للعائلات. ألبومات العائلات. ما علاقة المجازر؟ مفردتان تبدّد كلّ منهما الأخرى. لا ليس خطأ مطبعياً ولو أنّه بدا كذلك. هو اسم لخطيئةٍ جديدة. 

يشعرك تجاور الكلمتين بالغرابة. كيف تسلّلت تلك المفردة الرهيبة لتلتصقَ بالعائلات؟ كيف انقضّت شراستها على وداعةِ الكلمة وما تحويه من معاني الألفة التي تولّدها الكثرة والتكاثر البشري؟ من كان في استطاعته أن يقحمها بعدوانيتها الوقحة لو لم تدخلها إسرائيل، مؤلفتها، في الجملة؟ 

وحين تذكر إسرائيل، لا يعود الموضوع مجرّد دخول في جملة. بل احتلال لها، استيطان قسري وعنيف، محو للمعنى الأصلي. اغتصاب المسالمة بالتوحش، المُتنزهات العائليّة بالأنقاض، مدن الملاهي بشظايا الصواريخ، بالحفر العميقة التي سرعان ما تمتلئ بأشلاء العائلات. يحصل للكلمة ما يحصل للأعداد عندما تضيف قبلها صفراً. تتضخم قيمتها وتصبح نقيض نفسها.

كيف تكون المجازر عائليّة؟ هذا اسم جديد لجريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزّة

تتذكّر الصور التي كنت قد شاهدتها في أرشيفِ مؤسّسةٍ تُعنى بالصور القديمة، الأسود والأبيض منها. صور لملمها جامعها من أرشيفٍ مُهملٍ لأستوديوهاتِ التصوير القديمة في صيدا وبيروت. أستوديوهات ماتت وصار أرشيفها بلا معنى مع اختراع الكاميرات المتطوّرة ثمّ الهواتف النقالة. صور لا تعرف هويّة من يظهرون فيها. أكثرها صور عائلية تجمّع كلّ أفرادها لالتقاطِ لحظةٍ تثبت كونهم جماعة متصلة، تشهر هويّتهم. أولاد يلهون حول أهاليهم في مطاعم غابرة. صور أخرى، ربّما لحفل شواء في الهواء الطلق على ضفة نهرٍ تسبح فيه بطيخة كبيرة بانتظار تبريدها. مراجيح في البرية، أو سبّاحون بمايوهات مضحكة يتخذون أوضاعاً رياضيّة مرحة عند شاطئ البحر. صور لتلميذات بمراييلهن وشرائط شعورهن المعقودة يجلسن في صفوف مدرستهن، صور أطفال ذكور عراة، أو صور لعروسين استعارا بدلة العرس من أستديو التصوير كما كان دارجاً.

هذه هي الصور العائليّة، فكيف تكون المجازر عائليّة؟ هذا اسم جديد لجريمة الإبادة الجماعيّة لكنه أدق. فالأولى تجمع الأغراب أمّا الثانية فتجمع الأهل. 

نحن أيضاً في لبنان، كان لنا نصيبنا من المجازر العائلية، أولئك الذين تحوّلوا أشلاء تحت الأنقاض، أو الذين تبدّدوا في الهواء غباراً منثوراً بأسلحةٍ صُمِّمتْ للمحو وليس لمجرّد القتل. "الممحوون" هو المصطلح الجديد الذي أضافته الهمجيّة المعاصرة إلى قواميس التوحّش التي نعرفها من حروبنا السابقة. في حربنا الأهلية اللبنانية التي خطفنا فيها بعضنا، وأخفينا بعضنا الآخر قسراً، عرفنا كلمات كالمخطوفين (على حواجز الهويّة الدينية) والمخفيين قسراً (على حواجز الأحزاب المتحاربة) والمفقودين (الذين سُلِّموا لإسرائيل عبر المتحالفين معها لكنها لم تعترف بوجودهم). كلُّ واحدة منها لها ظرفها ومعناها الدقيق. لكن لم يكن لدينا "ممحوون" من الوجود بالمعنى الغزّي. هذه كارثة لا أفقه حتى كلَّ أبعادها. في حاجة إلى الوقت لأفهم مدى وحشيتها، لأستوعبَ معنى ارتكاب خطيئة كهذه، مع سابق التصوّر والتصميم، ضدَّ غريزة البقاء البشرية. 

نعم، عرفنا مجازر عائليّة ارتكبتها إسرائيل في عدواناتها الكثيرة على لبنان، لكنها كذلك بالمصادفة. أذكر مثلاً عائلة "البرجي" من قانا في جنوب لبنان، والتي قُتل من أفرادها ما يُقارب الأربعين شخصاً في عدوان عناقيد الغضب الإسرائيلي، أو عائلة بزيع من زبقين في الجنوب أيضاً. أذكر جيّداً كيف حاولت تلك العائلات التي كادت تُباد، أن تجتمع مرّة أخرى عبر مونتاج يجمع صور الشهداء من عائلةٍ واحدةٍ في صورةٍ واحدةٍ كبيرةٍ مُمنتجةٍ: كبار السن في وسطها تدليلًا على قيمتهم والاحترام الذي يحظون به، ثم الأبناء وزوجاتهم فالأحفاد حتى الرضّع منهم. قاوم آل البرجي الإبادة بتلك الصورة. أمّا في غزّة فلا أثر حتى للبيوت، أو الأحياء التي كانوا فيها. 

لم تكن مجازر إبادية في لبنان. لكن النيّة كانت واضحة في غزّة، وقد فهمها الغزيّون قبل الجميع

الأثر الوحيد المتبقي على منصّات التواصل الاجتماعي التي غصّت بالوصايا لمن تيقنوا من "حتمية الاستشهاد"، وكانوا فقط ينتظرون دورهم.

لم تكن مجازر إباديّة في لبنان. لكن النيّة كانت واضحة في غزّة، وقد فهمها الغزيّون قبل الجميع. غزّة التي يعرف الإسرائيليون كلّ من يتنفس فيها: أين يسكن؟ في أيّ طابق؟ ومع من؟ على أيّ سريرٍ ينام؟ ومع من؟ ما نوع الطناجر في خزائن المطبخ؟

فلنبد اليوم عائلة شهاب؟ قد يقول الجندي لزميله في قمرةِ القيادة في الطائرة الحربيّة المتطوّرة، قبل أن يطلق صواريخه من علو عشرين ألف متر. يجلس آمناً في طيارته كما يكون اللاعب آمناً أمام شاشة الكومبيوتر.

أيّ عائلة سنبيد اليوم؟ يقول الجندي ذلك وهو يتثاءب. عائلة صيدم؟ أبو دقة؟ أم عائلة دوّاس؟ 

"هيا بنا" يقول مساعد الطيار. فلنبد بيوتهم ونعجنهم بها ولا نترك ما يبرّر حصولهم على قبرٍ حتى. نريد كامل الأرض، لا نريدُ فلسطينياً واحداً فوقها أو تحتها أو في ذاكرتها. نريد أرضاً نظيفة، بكراً ولو قسراً. أرضاً فاقدة للذاكرة، مُصابة بالزهايمر. فلنصبها به. لن نبق منهم، ولو غباراً ولنا كلُّ شيء. يقول المستوطن الطيّار لزميله في قمرةِ الطائرة الحربيّة المتطوّرة وهو يخرق جدار الصوت ويمرح ملياً. فلنَمْحُهم، يهتفان معاً. هيّا بنا نلعب.