المدينة لا تحتمل وجه امرأة
أثناء مروري بالسيارة على كورنيش النيل، في اتجاه التحرير - المعادي، رأيت وجه فتاة إعلان (علامة تجارية) مُشوّهاً، مُسوّداً تماماً، بوساطة مادة "الإسبراي" الأسود، وذلك على طول اللوحات الإعلانية في الجهة المقابلة تماماً لقسم شرطة مصر القديمة. عدد اللوحات التي شُوّهت لا يتجاوز العشر، وربما طاولتها تلك اليد لأنها على مسافة قريبة من الأرض، ولا يحتاج من يريد أن يقوم بهذا الفعل إلى سلّم لكى يرتقيه فيصل إلى اللوحة.
وقد قامت شركة الإعلانات بنزع اللوحات بعد ثلاثة أيام من عملية التشويه. هذا الإعلان منتشر في كلّ أرجاء القاهرة، وخاصة في حي المعادي الذي أعيش فيه، واللوحات ما زالت قائمة، وربّما على مسافة أقل، ولكن منطقة مصر القديمة من المناطق الأشدّ فقراً في محافظة القاهرة.
هذا التشويه الرمزي للوجه ذكرني على الفور بالطرح الفلسفي الذي قدّمه الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس (12 يناير/ كانون الثاني 1906 - 25 ديسمبر/ كانون الأول 1995)، إذ يقول: "إنّ ملاقاة الإنسان الآخر تسمح لي بأن أكتشف وجهه. الوجه هو هوية الكائن". العلاقة مع الوجه، وفقاً لليفيناس، هي علاقة أخلاقية. حضور الوجه يطالبني بالردّ، بالاستجابة، فالوجه يحضر بعريه وتعاليه ولانهائيته. الوجه سافر، وربما يمثل تهديداً أيضاً. وفي هذه اللوحة التي علّقتها الشركة، اختارت وجه امرأة، جميلاً، مبتسماً، متحدياً، عبر ابتسامة صغيرة، وعلى مسافة قريبة من اللمس، كأنها تقول أنا الآخر هنا يمكنك أن تأتي وتلتحق بي أو تقتلني. وفي عبارة بليغة يقول ليفيناس: "فالواحد يتعرَّض للآخر كما يتعرَّض جلد الإنسان للذي يريد جرحه، أو كما يتعرَّض الخدُّ لمن يريد لطمه". ليس في وسعي أن أتجنّب الآخر، فالآخر هناك دائما، وعليّ أن أجري معه حواراً. عندما ألتقيه يجب عليّ أن أتحدث معه. أي كما يقول ليفيناس "أنْ تتكلَّم هو، في الوقت نفسه، أن تتعرَّف إلى الآخر، وأن تعرِّفه بذاتك [...] هذا التعاطي الذي يتطلَّبه الكلام هو بالتحديد العمل بدون عنف".
وعندما لا يمكنك التحدّث معه أو التواري عنه، فهو يطاردك، يلاحقك، وكأنه بالفعل صار تهديداً. يبدو أنّ وجه المرأة في لوحة الإعلان تلك يمثل تهديداً مباشراً للآخر/الرجل، ولا يمكن النظر أو التطلّع إليه دون الإحساس بفقدان الهوية. يظهر وجه المرأة هنا متعالياً ولا يمكن الهرب منه، وأيضاً لا يمكن الالتحاق به، فهو يأخذ الطابع الشبحي، لذا هو تهديد كامل. حضور هذا الوجه الصريح، والمبتسم، والذي يدعو إلى الكلام والتواصل، ولو كان عبر شراء سلعة، يذكر من جهة أخرى، بالفقر والعجز والكبت. يذكر الآخر/الرجل بأنه مستلب ومفقود وخانع.
حضور وجه المرأة بهذا الشكل السافر والمتأنق يجعل بؤس الرجل مكشوفاً، فيأتي هذا التشويه الحادث للوجه بمثابة قتل
صار حضور المرأة/ الآخر في الفضاء العام يسلب امتيازات الرجل، ويهدّده بفقدان المكانة والهوية. حضور وجه المرأة بهذا الشكل السافر والمتأنق يجعل بؤس الرجل مكشوفاً، فيأتي هذا التشويه الحادث للوجه بمثابة قتل. هو إعلان حرب مفتوحة على حضور المرأة في المجال العام. الشارع تتم مصادرته للرجال. لا وجود لغيرية هنا، هنا فقط الذاتية. الذاتية التي تراقب وتحكم وتستبد.
ولكن، ووفقاً لليفيناس، لا يمكن قتل الوجه، أي لا يمكن القضاء على الآخر لأنّه في اللحظة نفسها (قتل الوجه) يكون القضاء على الآخر. فأيّ تهديد للآخر هو بشكل ما تهديد للذات. ربما يأتي هذا التهديد على شكل الإحساس بالذنب، السقوط، الموت. هذا ما يجعلنا نعيش الحياة كذنب، كعقاب، نطلب الخلاص ولا نجده. لأنّ الخلاص مشروط بالانفتاح على الآخر، بالنداء على الآخر، باستدعاء الآخر والتحدّث إليه. هذا الانفتاح على الآخر يستوّجب المسؤولية الأخلاقية تجاهه، والمسؤولية تتعلّق هنا أساساً بالالتزام، والالتزام قضية ترتبط بالجسد والعيش المشترك.
لا يمكن للحياة أن تُعاش بشكل حقيقي إلا عبر الجلوس على مائدة طعام واحدة. هذا السرّ في الطعام وفي الجسد، كأننا إزاء سرّ "الأفخارستيا"، سر القربان المقدس. هو السرّ الذي صنعه المسيح مع تلاميذه في العشاء الأخير، حينما وزّع عليهم خبزاً، وقال لهم هذا هو جسدي فكلوه، ومرّر عليهم خمرة، وقال لهم هذا هو دمي، اشربوه. في هذا السرّ، وعلى هذه المائدة، يجب على الذات أن تقدّم نفسها قربانا للآخر، أن تستدعى الآخر ليحلّ صديقاً وضيفاً في البيت/ العالم/، في هذا الوقت يمكننا أن نعيش بشكل مشترك.