القانون في بلاد الفساد "سبوبة"

25 يوليو 2024
+ الخط -

أحاول فتح جفونِي للنهوض إلى النهار، فتُفتح بتثاقلٍ وبطءٍ، كما لو أنّ وزنها ازداد بتشرّب رطوبة الليل الحارّ طوال رقادي المضطرب. عينايَ ساخنتان، كما لو كانتا مصدرًا إضافيًّا للحرارة، والصداع الذي يضجّ في رأسي، يزيد من رهافة سمعي ويجعل أذنيَّ متأهّبتين للغضب لأدنى ضجيج.

لا تزال الحرارة منذ أيّام ترتفع فوق معدّلاتها الموسميّة مع رطوبة غير مسبوقة. تمشي في الشارع لدقائق، فتلتصق ثيابُك الخفيفة بجسدك. الهواء مشبَع بالمياه. تقول لنفسك إنّك في الحقيقة لا تمشي، بل تسبح.

تقرأ أنّ خبيرًا قال إنّ يوم 21 تمّوز/يوليو الماضي واليومين اللذين تلياه سجّلوا أعلى معدّل حرارة لهذا الشهر في تاريخ الكوكب. وحدها الكهرباء لا تنفكّ تتراجع دون معدّلات خدمتها بشكل رهيب.

أفلحت زيارة التسوّل للعراق في مدّنا ببعض الفيول، مع أنّنا لم ندفع للعراقيّين الكرماء مستحقّاتهم من دفعات سابقة. يُعرب رئيس الوزراء العراقي عن "تفهّمه لظروف لبنان"، وهي ظروف غامضة علينا نحن المواطنين المختنقين بالعتمة والحرّ والرطوبة، على الرغم من توالي التفاصيل والمعلومات في الصحف والتلفزيونات.

عن أيّ ظروف يتحدّث؟ انتظر كلٌّ من الحكومة ومصرف لبنان بعضهما حتى آخر قطرة فيول، آخر لمبة مضيئة في البلاد، في كباش قوّة، حجّته الظاهرة الالتزام بالقانون وانعدام الدولارات. المصرف لن يصرف ليرة واحدة من دون قانون، والحكومة تريده أن يصرف بدون قانون. عتم البلد كلّه. توقّفت كلّ المعامل، عندها هبّت الحكومة لتسوّل تتقنه، أفلح مؤخّرًا.

أنجدنا العراق، صحيح، لكنّها كمّية لا تتيح إلّا ستّ ساعات يوميًّا من التيّار. ستّ ساعات صحيح، لكنّها متفرّقة. ساعة من هنا وساعة من هناك. ما إن تبترد بعمل المكيّف حتى تنقطع الكهرباء. لدرجة أنّك أصبحت تتوتّر عندما يصل التيّار قلقًا من انقطاعه الذي لا تعرف متى يحصل.

دام ذلك ربّما ثلاثة أيّام، ثمّ عاد التيّار للانقطاع تمامًا تقريبًا حتى عن العاصمة. لِمَ؟ لا أحد يعلم.

الجار يقول ما سمعته منذ عقود في باب التذمّر: إنّ الدولة، أو ما يصفونها تجاوزًا بذلك، تعطي التيّار للمصايف والمسابح والفنادق. فالسياحة في لبنان مقدّسة. أموال المغتربين أيضًا مقدّسة، تكاد تُذكر في النشيد الوطني لبلد يكاد لا ينتج شيئًا. تلك أموال فوق كلّ اعتبار لأنّها تؤمّن الاستمرار. لمن؟ لمؤسّسات الدولة؟ بل لنظام التحاصص الطائفي الذي يحكم البلاد منذ "نهاية" الدولة في حرب أهليّة، محوّلًا إيّاها فعليًّا إلى فدراليّة طائفيّة غير معلنة.

بتنهيدة حارّة أنهض. أنظر إلى سريري والمخدّات المتعدّدة التي نثرتها هنا وهناك خلال محاولتي النوم، ولمنع تلامس أطراف جسدي لبعضها تفاديًا للشعور بالدبق. أمّا الفراش فيبدو كساحة وغى. أنظر إلى وجهي في مرآة المغسلة: ها هو الوجه المهزوم في معركة الليل الماضية.

لِمَ لم أشترك في مولّد الحيّ؟ أردت ذلك. لكنّ صاحب المولّد رفض بكلّ عناد تركيب عدّاد لحساب استهلاكي الشهري كما ينصّ القانون، وبالتالي محاسبتي على ما صرفت فقط. يتصرّف أصحاب المولّدات كأيّ مافيا احتكار.

في طرابلس تدور من حين لآخر اشتباكات مسلّحة بين أصحاب المولّدات في صراع على مناطق النفوذ. تمامًا كالقطط البرّية. أمّا في بيروت؟ خصوصًا في المناطق المهمّشة والفقيرة كالمخيّمات الفلسطينيّة، فقد بلغني أنّ بعض أصحاب المولّدات باتوا يهدّدون من يريد تركيب ألواح للطاقة الشمسيّة بحرقها! تمامًا كأيّ قوّة احتلال تحاول إخماد أيّ حركة استقلال حماية لسطوتها ومنافعها.

يفرض صاحب المولّد، حتى في الحيّ الراقي الذي أسكنه مقطوعيّة شهريّة تفوق بكلّ الحالات أيّ استهلاك وأيّ تسعيرة أقرّتها الدولة. يفرضها على سكّان، جلّهم من النخبة المتعلّمة والمرتاحة مادّيًّا حتى بعد الانهيار. لا، بل إنّه يشترط أحيانًا لقبوله تزويدهم بتلك الخدمة أن يوقّعوا على أوراق تفيد رفضهم تركيب عدّاد الاستهلاك الذي فرضته الدولة! وبالطبع هناك تفاهم تامّ بينه وبين أصحاب المولّدات الأخرى على تقاسم مناطق النفوذ، بحيث لا يمكنك أن تختار اشتراكًا دون آخر يناسبك أكثر، وبالتالي لا منافسة: احتكار وتسلّط فقط.

هذا حال نخبة، عادة ما تناضل من أجل الحقوق وتغيير النظام، لكنّها أمام صاحب المولّد تقبل بشروطه غير القانونيّة.

لكنّني لم أقبل. احتملت عنادًا، وبالمرّة، قلت في نفسي: سأوفّر كلفة تركيب الطاقة الشمسيّة التي ستغنيني عن الاشتراك بمولّد الحيّ، وعن التغييب المتدرّج لكهرباء الدولة.

لكن ما لم أكن أحسبه أنّ تركيب الطاقة الشمسيّة سيكون معقّدًا لهذه الدرجة.

ففي حين تكاد ألواح الطاقة تجتاح البلاد من رؤوس جبالها إلى أخمص قدميها عند الساحل، في إعلان واضح لليأس من التيّار الرسمي، وبدون أيّ رخص، قيل لي إنّ الدولة فقط في العاصمة، تتشدّد في تطبيق القانون الذي ينصّ على الحصول على ترخيص. وهو ترخيص دونه التكاسل الإداري من جهة، والتعقيدات الهندسيّة وموافقة جميع الجيران من جهة أخرى.

هكذا هرب أغلب المهندسين والتقنيّين الذين حاولت تكليفهم بتركيب الطاقة عندي من متاهة الترخيص. أمّا لماذا هي متاهة؟ فلأنّ القانون أصبح لبعض القوى الأمنيّة المولجة تطبيقه مجرّد "سبوبة"، كما يقال بالعامّية، أي إنّه باب رزق، يكاد يكون مشروعًا، في ظلّ انهيار العملة والأجور. تكاد تتفهّمهم.

يؤكّد لي أحد الجيران أنّ المولجين بتطبيق القانون "ما إن يشمّوا رائحة تركيب طاقة من دون رخصة في بيروت، حتى يداهموا المكان للحصول على بعض الرشاوى مقابل أن يغضّوا النظر".

حسنًا. وإن رفضت أن أدفع رشى؟ قال هناك غرامة. فكّرت قليلًا وقلت: إذًا أفضّل، وبانتظار الرخصة، أن أدفع غرامة للدولة تذهب إلى الخزينة، بدل دفع رشاوٍ تساهم في انتشار الفساد.

استرحت للفكرة، وعزمت. لكنّني استدركت بعد لحظات: أليست خزينة الدولة منهوبة من قِبَل كبار الفاسدين في السلطة؟ ألا يستخدم هؤلاء أموالها لاستتباع الفاسدين الصغار الذين أرفض أن أدفع لهم رشوة زعمًا بأنّي مواطنة صالحة؟

ربّما عليّ تفضيل الرشوة على الغرامة؟ أم العكس؟ هل هذا ما يسمّى بـ"خيار صوفي"؟