العنصرية تلاحقني.. لكني تعبتُ من السفر

09 يوليو 2024
+ الخط -

تُلاحقنا عيونهم في كلِّ مكانٍ، في المتجر، وفي المقهى، وفي الشارع، وفي المصعد، وفي المتنزّه، وفي المصيف، وفي الطريق... كلّ شيء يخبرك أنّك لست من هنا، حتى لوحة سيارتك تذكّرك كلّ يومٍ بأنّك (وإن فتح الله عليك بامتلاك عربةٍ) هنا أجنبيّ، ستبيعها لمواطنٍ وترحل ذات يوم، الجميع يصنّفك أولًا إن كنت أجنبيًّا أو مواطنًا، ثم يسألك في أجنبيتك عن جنسيتك، ليحدّد موقفه منك، ومدى علوّ نظراته أو انخفاضها، السوري غير المصري غير اليمني، أمّا إذا كنتَ أشقر بعيونٍ زرقاء فلا تهم جنسيتك، المهم أنّك أوروبي وكفى، لست عربيًّا من ذلك العالم القميء.

أنتَ هنا غير مرحَّب بك، عبءٌ ثقيل، وورقة مقزّزة في أيدي الساسة، وحملٌ على كواهلِ الناس، لا تهم كينونتك البشرية، ولا أسبابك في الإقامة، ولا قيمتك الاقتصاديّة الماديّة حتى، في بعض البلدان تتعالى القومية لدرجة "الكرشَمية"، وهو مصطلح ابتكرته حالًا، لتحوّل البعض إلى النزعة الكورية الشمالية، بالرغبة في أن تنغلق البلاد على عرقها وأهلها وشعبها فقط، ولا أحد يأتي من الخارج، لا نريد لسانًا غير اللسان، ولا ثقافةً فوق الثقافة، ولا حتى طبقًا مختلفًا متنوّعًا من مطبخٍ آخر غير مطبخنا الوطني، الحدود هي كلّ شيء، هي التي تفصلنا عن العالم، وداخلها نظن أنّنا الأفضل في العالم، لأنّنا لا نرى في العالم أيّ عالمٍ سوانا!

تُطاردنا العنصريّة والعنصريون، بالنظراتِ والتهديدِ والوعيدِ والاشمئزاز والعنف، بكلِّ الطرق، وفي كلِّ مكان، في بعض البلدان، يسألونك من أين أتيت، ثم يسألونك لماذا فررت من الحرب، كأنّ اللجوء هو الجريمة الكبرى في هذه الدنيا، وخطيئة البشرية، لا الظلم، ولا القتل، ولا الدمار، وكأنّك مطالبٌ حين تنتمي إلى بلدٍ تكالبَ عليه أشر أهل الأرض كلّهم، وأنت طفل، أن تحمل السلاح وتقاتل، ثم تقاتل في صفِّ من وضدَّ من، والعالم كلّه يتقاتل فوق رأسك؟ ثم تخرج إلى الوجهة الأقرب، فيستقبلك البعض الكريم من الشعب، ثم فجأةً بعد سبع سنوات ربّما، تجد نفسك عائدًا إلى بلادك، التي ما زالت تحت الحرب، لكنك جثة، في كيسٍ أسود، وقد قتلك البعض الآخر الذي لا يريدك!

قطعوا عنا الهواء وضيّقوا علينا الأرض ورمونا في قوارب متهالكة إلى البحر

ومسألة "البعض" هذه ليست للتحايل القانوني، ولا للنجاة من ذنبِ التعميم، ولكن لأنّي أؤمن بحقيقةِ أنّ البشر بالفعل مختلفون، والشعوب فيها ما فيها من عنصريةٍ وحسنِ ضيافةٍ، لكنها نسب تتراوح بين مكانٍ ومكان، الفارق هو المساحة الممنوحة لخطابِ الكراهية في كلِّ بلدٍ، ومدى التركيز على "اللاجئين" أو "الأجانب" بوصفهم عبئًا فوق كلِّ شيء، وسببًا لأيّ شيء، وهذا لا ينفي وجود بعض البيوت الطيّبة والنفوس الكريمة، في شوارع تلفظنا بالكامل!

إلى أين نذهب؟ أو على قول الغزيين "وين نروح؟"، وكلّ الأماكن تضيق بنا، ومعظم البلاد تطردنا، ذلك الذنب العظيم أنّنا، إمّا أردنا تنفس الحريّة على طريقتنا فعوقبنا، وإمّا أنّنا أردنا التنفس أصلًا فقطعوا عنا الهواء وضيّقوا علينا الأرض ورمونا في قوارب متهالكة إلى البحر، وقالوا: غوروا! وهنا نحن منذ ذلك الحين مشتّتون في بقاعِ الدنيا، بين يد تربّت وألف يد تكسر وتطعن وتقتل وتسب وتلعن، وبين عينٍ ترأف وتشفق، ومليون عينٍ تنظر إلينا شزرًا أو تلتهب حنقًا وغيظًا، لكن لنا ربٌّ كريم، ولنا يومٌ نعود فيه إلى أوطاننا، وحينها سيكون انتقامنا الوحيد من هؤلاء أن نفتح بلادنا للجميع، ونريهم كيف تسع أرض الله كلّ خلق الله، وكيف لا تضيق الأوطان إلا بمن يظنونها حكرًا عليهم وحدهم، وكيف لا تأكل العنصرية إلا ناسها.