العراق نافذة أمل في زمن الأزمات
في خضم النزاعات المتشابكة التي تلف منطقة الشرق الأوسط وتفاقم الأزمات الإنسانية، يبرز العراق واحةً للدعم والمساعدة، حاملًا على عاتقه مسؤوليات تفوق تحدياته الداخلية. فبعد سنوات طويلة من الصراع والحروب، بدأ هذا البلد العريق يستعيد دوره المحوري في تقديم العون واستقبال اللاجئين، ودعم المبادرات الإقليمية للسلام، في مشهد يبرز حجم التحدي الذي يواجهه العراق لتحقيق التوازن بين احتياجاته الداخلية ومسؤولياته الإنسانية. ومع تعقد الوضع في دول مثل لبنان وفلسطين، ظهر العراق في المشهد الإقليمي داعمًا مستمرًّا لهاتين الدولتين اللتين تواجهان تحديات وجودية.
أصبح العراق... ملاذ اللاجئين في زمن النزوح مع تفاقم الأزمات في سورية واليمن، وتحول النزاعات إلى كوارث إنسانية، وجد الآلاف من اللاجئين في العراق ملاذًا آمنًا. مشهد الحدود العراقية السورية لا يكاد يخلو من قصص العائلات التي فرّت من ويلات الحرب، باحثة عن ملاذ بعيد عن أزيز الرصاص وأصوات الانفجارات. ورغم التحديات الاقتصادية والسياسية التي يواجهها العراق، فتحت الحكومة أبوابها لهؤلاء اللاجئين، ووضعت في الاعتبار أن دورها يتجاوز حدود الوطن.
إقليم كردستان العراق، على سبيل المثال، تحول إلى منطقة تحتضن مخيمات عديدة للاجئين، حيث يتم تقديم الخدمات الأساسية من مأوى ورعاية صحية وتعليمية بالتعاون مع المنظمات الإنسانية الدولية. ولا يقتصر الأمر على استقبال اللاجئين فحسب، بل امتدت يد العراق إلى المساهمة في إعادة النازحين العراقيين إلى ديارهم بعد سنوات من نزوحهم الداخلي إثر اجتياح تنظيم "داعش" لأجزاء واسعة من البلاد.
في لبنان، الذي يمر بأزمة اقتصادية خانقة وانهيار مالي غير مسبوق، جاء العراق ليؤكد مرة أخرى دوره داعمًا إقليميًّا. فقد ساعد في توفير النفط للبنان، مساهمًا في التخفيف من أزمة الطاقة الحادة التي تعانيها البلاد. المبادرة العراقية لتزويد لبنان بالوقود جاءت في وقت حساس، إذ يعاني اللبنانيون نقصًا حادًّا في الكهرباء، ما يهدد بتفاقم الأوضاع المعيشية الصعبة. هذه المبادرة لم تكن مجرد خطوة اقتصادية، بل تحمل دلالات سياسية وإنسانية تشير إلى عمق العلاقات بين البلدين ورغبة العراق في دعم استقرار لبنان.
وفي فلسطين، حيث يعيش الشعب الفلسطيني تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، خصوصًا في غزة التي تتعرض لحصار طويل الأمد، لم يتوانَ العراق عن تقديم الدعم السياسي والمادي. سواء من خلال تبرعات مالية أو مساعدات إنسانية أُرسلت إلى الفلسطينيين، أو من خلال دعم قضاياهم في المحافل الدولية، يُظهر العراق تضامنه المستمر مع القضية الفلسطينية. المساعدات العراقية للشعب الفلسطيني تعكس التزامًا تاريخيًّا تجاه فلسطين، حيث لا تزال بغداد ترى في دعمها للفلسطينيين واجبًا أخلاقيًّا وسياسيًّا في ظل الظروف الصعبة التي يمرون بها.
في لبنان، الذي يمر بأزمة اقتصادية خانقة وانهيار مالي غير مسبوق، جاء العراق ليؤكد مرة أخرى دوره داعمًا إقليميًّا. فقد ساعد في توفير النفط للبنان، مساهمًا في التخفيف من أزمة الطاقة الحادة التي تعانيها البلاد
العراق يدخل المشهد في دعم الجيران في الأوقات الصعبة العراق، الذي لطالما كان مسرحًا لصراعات داخلية وخارجية، يعرف تمامًا معنى المعاناة الإنسانية، ولذلك لم يقف مكتوف الأيدي إزاء ما يمر به جيرانه. ففي سورية، كانت القوافل الإنسانية تعبر الحدود العراقية نحو الداخل السوري، محمّلة بالغذاء والأدوية لملايين الأشخاص الذين عانوا الحصار والجوع.
وفي اليمن، حيث الحرب الأهلية لا تزال مستعرة، أعلنت بغداد استعدادها لدعم الجهود الدولية الرامية إلى تخفيف معاناة الشعب اليمني. ورغم التحديات اللوجستية، لم يتردد العراق في عرض المساعدات الإنسانية والمشاركة في تسهيل الجهود الرامية إلى إيصالها.
أصبح العراق جسرًا للسلام في منطقة ملتهبة، لكن الدور الذي يلعبه يتجاوز الإغاثة الإنسانية، ليصل إلى دعم الجهود الدبلوماسية في واحدة من أكثر المناطق توترًا في العالم. فالعراق، الذي تعافى تدريجيًّا من أزماته الخاصة، بدأ يستعيد مكانته وسيطًا قادرًا على تقريب وجهات النظر بين القوى الإقليمية المتناحرة. فبعد سنوات من الانقسامات الطائفية والصراعات المسلحة، يسعى اليوم لأن يكون صوت العقل والسلام، داعمًا الحوار بين الأطراف المتصارعة في المنطقة.
استضاف مؤخرًا سلسلة من المحادثات السرية والمعلنة بين قوى إقليمية كبرى، مثل السعودية وإيران، في محاولة لتخفيف التوترات التي تهدد استقرار المنطقة بأكملها. هذه الاجتماعات التي عقدت على أرض العراق ليست مجرد مبادرات دبلوماسية عابرة، بل هي مؤشر على قدرة هذا البلد العريق على لعب دور إيجابي في تقريب وجهات النظر وتحقيق تفاهمات سياسية قد تكون بداية جديدة لحقبة من الاستقرار في المنطقة.
ورغم هذا الدور المحوري، لا يمكن إنكار أن العراق يواجه تحديات كبيرة تعوق قدرته على تقديم المزيد. الأوضاع الاقتصادية الصعبة، التي تفاقمت بفعل جائحة كوفيد-19 وانخفاض أسعار النفط، أضافت عبئًا إضافيًّا على الحكومة العراقية. البطالة، التضخم، تدهور البنية التحتية هي مجرد أمثلة على الأزمات التي تطارد هذا البلد وتحدُّ من قدرته على تلبية احتياجات مواطنيه.
لكن ما يميز العراق في هذه المرحلة هو قدرته على مواصلة دعم جيرانه والمشاركة في الجهود الإنسانية الإقليمية، رغم ما يمر به داخليًّا. هذا الالتزام يعكس الروح الإنسانية التي لطالما كانت جزءًا لا يتجزأ من تاريخ هذا البلد.
يبقى العراق... نموذج الأمل والتحدي في زمن تكاد الأزمات فيه أن تطغى على كل شيء، يقف العراق كمنارة للدعم والمساعدة، متحملًا مسؤولياته الإقليمية رغم الصعوبات الداخلية. من استقبال اللاجئين الهاربين من النزاعات إلى دعم لبنان وفلسطين في ظل أزماتهما المتواصلة، ومن استضافة المحادثات الدبلوماسية إلى تقديم العون للشعوب المتضررة، يؤكد العراق دوره لاعبًا رئيسيًّا في تحقيق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط.
إن تجربة العراق في التعامل مع أزمات المنطقة ليست مجرد فعل إنساني نبيل، بل هي رسالة إلى العالم بأن الأمل يمكن أن ينبعث من رحم الأزمات، وأن البلدان التي تعاني يمكن أن تتحول إلى ركيزة دعم لمن حولها، إذا ما توافرت الإرادة والحكمة.