الطريق إلى القدس عبر القاهرة
هممتُ بكتابة هذا المقال، قبيل دقيقةٍ واحدةٍ حرفيًّا، من الخبر الذي تلقيناه جميعًا، بتسلّل على الحدود المصرية مع الأراضي المحتلة. "حدث أمني" وصل بعدها بدقائق إلى الاشتباه بكونه عملية تهريب مخدرات، قبل أن يعرفوا هم أنفسهم ماذا يفعلون، وقبل أن تنتهي العملية، وقبل أن يعرف أيّ أحد أيّ شيء، كانت قنوات القاهرة الإخبارية حاضرة، والسيناريو الجاهز لمحرّري النوبة الليلية في درج المدير النائم، إنها عملية "مخدرات".
ولا أعلم ما قصة "المخدرات" مع روايتنا المصرية الرسمية في أيّ شيء، رواية موروثة من وزير الداخلية الأسبق، حبيب العادلي، في استخدامها الأشهر، مع لفافة بانجو خالد سعيد، ومع اتهام شباب محمد محمود، وبعدها الكثير حتى الوصول إلى عملية الجنديّ محمد صلاح فجر السبت المجيد في الثالث من يونيو/ حزيران 2023، والتي أوقع فيها 3 قتلى من الجيش الإسرائيلي، وأصاب رابعًا، إذ كانت أوّل الأخبار عن الحدث تقول إنّه لمطاردة مهربي مخدرات، ثم فجأةً، يخبرنا الإعلام العبريّ بالتفاصيل.
وفي الساعات المبكرة بعد منتصف الليل للسادس عشر من يناير/ كانون الثاني 2024، يحدث "حدث أمني" آخر، تخبرنا فيه الأذرع الإعلامية للمخابرات المصرية من قبل أن يرتد إليك طرفك، أو تقوم من مقامك، بأنّها عملية لإحباط تهريب مخدرات، في اللحظة ذاتها التي يخبرنا فيها الإعلام العبريّ بأن العملية تشمل تسلّل عشرين شخصًا، بينهم مسلحون، من الحدود المصرية باتجاه الأراضي المحتلة بإسرائيل.
عشرون شخصًا، مسلحون، على الحدود المصرية الإسرائيلية، وسط الحرب على غزّة، ومع التوتر الأمنيّ، وخلوّ المستوطنات الإسرائيلية القريبة، وفي شدّة الاستنفار الأمني، وبينما تواجه إسرائيل أكبر تهديد في حياتها البائسة، وبينما لا يخاطر المهربون بأرواحهم في ظروف غير مأمونة ولا مضمونة، يُقدم عشرون مهرّبًا، يسيرون في دفعة واحدة، على اقتحام الحدود لإيصال الشحنة، أي فدائية تلك لعملية تهريب مخدرات؟ أي "تضحية" من "الديلر" المصري للحصول على تقييم 5 نجمات بعد التوصيل؟ لإسرائيل بذاتها؟ في عُقر ثكناتها العسكرية؟ ربما كانت السردية الجنائية المصرية القديمة تستخفّ بعقولنا إذاً حين تخبرنا بأنّ مجرّد الاتجار بعدّة غرامات وتسليمها يلزمه تحوّط أمنيّ، قد يلغي أي شيء مقابل سلامة صاحب المخدرات نفسه، ليأتي عشرون ساذجًا (حسب الرواية الساذجة) ويقتحموا أكثر الحدود اشتعالًا في العالم بالوقت الحالي، لإيصال "شُحنة"!
مصر، خيرها فيها، وسرّها في كثرة سوادها، فلا يستطيعون حصره ولا حصاره، ولا ينحسر ولو سوَّروه بألف سد، ولا يُمنع ولو كبلوه بالقيود والأسلاك الشائكة
وعلى كلٍّ، فليست الرواية هي موضوعنا، ولا مربط الفرس، وإنّما الدلالة، على أنّ مصر بوابةُ الفتح من الجنوب، وفيها المنبع للفعل الشريف المقاوم، وليس ذلك قفزًا على انتصارات غزّة، ولا احتكارًا للبطولة، ولا شوفينية وطنية منبوذة، وإنّما هو اعتراف بالسياق، وعودة بالزمن، ووقفة تاريخية، رغم ما يعتريها من نكبات ونكسات، وإذلال وإخضاع، فإنّ خيرها فيها، وسرّها في كثرة سوادها، فلا يستطيعون حصره ولا حصاره، ولا ينحسر ولو سوَّروه بألف سد، ولا يُمنع ولو كبلوه بالقيود والأسلاك الشائكة، وسياج إلكترونيّ متطوّر فاصل، وكما نقول في المثل الشعبي المصري: كان "الاحتلال" نفع نفسه!
والحقيقة أنّ مصر قاهرة، ومهما بلغ قهرها فلها الغلبة ذات يوم، ولن تمر مسيرة تحرير إلى القدس إلا إذا قطعت الطريق من ميدان التحرير في الجنوب أولًا، خصوصًا أنّ أي بُعدٍ لمصر عن القضية الفلسطينية هو استتبابٌ أمنيّ لإسرائيل في جبهة تربطها معها حدود بطول نحو 250 كيلومترًا، وأيّ مركزية للقضية الفلسطينية، وللمقاومة كحركة تحّرر وطني، فإن ذلك يعني تهديدًا حقيقيًّا لأمن إسرائيل، المتهاوي أصلًا، بعقيدته وعقليته وآلياته وتقنياته، بعد السابع من أكتوبر المجيد.
وعليهِ، فإنّ مصر لم تعدَم الهمم، ولا الخارجين عن قطيع الخوف، ولا المتمردين على الكساد في الحالة النضالية العتيقة، فالجندي محمد صلاح حين خرج من مربضه ذات صباح، فجأةً، لم يكن ذلك في إطار حرب ولا غيره، وإنّما في إطار مصريّته ومركزية فلسطين المحتلة التي كان يراها خلال شهور الخدمة القاسية على الحدود، وتلك المرأة التي وقفت في قلب القاهرة تنادي: "يا رجالة يا مصريين"، لم تكن إلا حالة حقيقية، خالصة، مخلصة، يشعر بها مائة مليون إنسان في مصر (عدا قلّة تتبنّى ما يقوله ربهم الأعلى)، في وسط حالة الخوف والقمع والصمت المطبق، بينما يُذبح إخوة المصريين وأصهار السيناويين على بُعد أمتار من الحدود الفاصلة.
لن تمر مسيرة تحرير إلى القدس، إلا إذا قطعت الطريق من ميدان التحرير في الجنوب أولًا
وذلك الرجل المسنّ، الذي ظهر وهو يسير في شوارع مصر، يتبرأ إلى الله من ذلك الخزي والخذلان، ومن الذل والسكوت والهوان، ومن الخيانة والتواطؤ، ليس أيضًا إلا حالة أصيلة في داخل وجدان ملايين المصريين، الذين يشعرون بجلد الذات تجاه إخوتهم على الجانب الآخر من الحدود.
ومع ذلك كلّه، ومع جمهورية الخوف ونظام التنسيق الأمني، وأعلى درجات التطبيع بين هنا وهناك، تظل الحالة المصرية فريدةً في التعاطي مع القضية الفلسطينية، بالحراك في الشارع، أو أي حراك على الحدود، ولعل من الأسباب التي يثور لأجلها المصريون خلال العقود الأخيرة، ولأجلها يغضبون وينتفضون، حتى ولو بعد حين، أنهم يقيّمون الحاكم على حسب تعامله مع "إسرائيل"، ومدى الرضا ومساحات الاطمئنان بين الجانبين، حتى تحين الساعة، فلا يبقي الشعب ولا يذَر، ويحاسب كلّ من وضع يده في يد إسرائيليّ، ولو بالصدفة أو تصافح عابر.
تلك الحساسية لمائة مليون إنسان وأكثر، في بلد طبّع نظامه رسميًّا منذ نحو خمسين سنة مع الاحتلال الإسرائيلي، ووصل معه إلى أقصى درجات المواءمة على المستويين الرسميين، فإنك لن تجد لذلك إلا السخط والغضب المتوارث في نفوس الشعب المكلوم، المنكوب بنكبة إخوته، مع اليقين التام بأنّ مصر، الشعب والأرض والوطن والحقيقة، بعيدًا عن زيف السلطات ولجانها المدفوعة أو المتطوّعة، ستكون صاحبة أثر وكلمة، في زلزلة أمن إسرائيل، والعبور من قلب القاهرة، والسويس، والصعيد، والإسكندرية، وسيناء، ورفح المصرية، بمحطة غزّة، وصولًا إلى القدس.