"الشطر"... خيال العالم الأول وواقع العالم الثالث
انتشرت في السنوات الأخيرة العديد من الأفلام السينمائية والمسلسلات الدرامية التي تتشارك في قالبها بفكرة جوهرية، ألا وهي البيئة المغلقة، والتي يُجبر البشر على العيش في ظلّها ضمن ظروف غير إنسانية، كالفيلم الإسباني المنصة (The Platform)، والمسلسل الكوري لعبة الحبار (Squid Game)، والفيلم الأميركي ثاقب الثلج (Snowpiercer)، بالإضافة إلى المسلسل الأخير الصومعة (Silo)، ولعلّ أهم هذه الأعمال هو المسلسل الكندي الشطر (Severance).
مسلسل "الشطر"، والذي أنتجته وعرضته منصة Apple في العام 2022، يتحدّث عن شركة كبرى ورائدة في مجال التكنولوجيا (لومون/Lumon)، تقبل المتقدمين إلى شواغرها، بشريطة أن يقوموا بعملية فصل لذاكرتهم المرتبطة بالعمل من خلال شرائح تزرع في أدمغتهم، وتكون هذه الممارسة القانونية ضماناً لبقاء عمل الشركة سرّياً بشكلٍ كامل، مما يؤدي بطبيعة الحال إلى تكوّن شخصيتين منفصلتين لا تتشاركان بأيّ نوع من المشاعر أو الذكريات في الشخص ذاته، إحداهما في الشركة تُدعى الداخلية، والأخرى في الحياة الطبيعية تدعى بالخارجية، وتكون النتيجة في النهاية إنساناً مستلب الذات.
ولعل أهم ما نستطيع قراءته من ثنائيات العمل البارزة، وبشكل مبكر، هي فكرة "استلاب الذات الإنسانية" ودخول سوق العمل إلى عصرٍ جديدٍ من العبودية. ويُعتبر مفهوم الاستلاب أو التغريب (alienation)، من أكثر المفاهيم الدلالية إشكالية في التاريخ، وذلك لتعدّد أوجه تفسيره عبر العديد من الفلاسفة والمفكرين كفريدريك هيغل وجان جاك روسو وتوماس هوبز في ظلّ المنظومات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ويعتبر الفيلسوف الألماني، كارل ماركس، من أبرز المفكرين الذين كتبوا عن هذا المفهوم، بل أعطاه أبعاداً جديدة في ظلّ النظام الاقتصادي السياسي الرأسمالي.
ولمفهوم الاستلاب الماركسي شرح معقد نوعاً ما، إلا أنّ تفسيره المبسّط هو فصل موضوع أو قيمة العمل عن العامل نفسه وتحويل العامل الى آلة، وهذا بالضبط ما يقدمه المسلسل في حلقاته التسعة من موسمه الأول، حيث يقوم العاملون في شركة (لومون) بالعمل لثماني ساعات متواصلة دون أن يكون لديهم أي إدراك عن ذواتهم الخارجية، ينجزون أعمالهم عبر ذواتهم الداخلية، وبشكل متكرّر وروتيني، ولا يفهمون طبيعة عملهم أو المغزى منه حتى.
خطأ واحد فقط قام به أحد الموظفين الإداريين كان كافياً لوضع المسمار الأول في نعش ديكتاتورية الشركة
البرود والهدوء المبالغ فيه، بالإضافة إلى الفراغ والسلبية، جميع هذه المشاعر تفرض نفسها على المشاهد في بداية العمل إلى حدّ الإزعاج، فالشرّ المطلق المتمثل في شركة (لومون) للتكنولوجيا، وخنوع العاملين فيها يتصادم بشكل مباشر مع مفاهيمنا البشرية عن الحرية في العصر الحديث.
امتاز المسلسل بكادر من الممثلين استطاع تحويل الشخصيات المكتوبة على الورق إلى شخصيات واقعية جداً، كالممثل (Adam Scott) بدور البطل الرئيسي للعمل (Mark S)، والذي حاز على العديد من الجوائز عن دوره الشديد التعقيد، مركباً من خلاله شخصيتن متناقضتين يفصلهما لحظة دخوله المصعد وخروجه.
قد يظنّ البعض أنّ هذه المعادلة التي افترضها المسلسل المتمثلة بفصل العامل عن موضوع عمله بعيدة عن أرض الواقع، ولكن مع القليل من التمحيص والبحث ستجد أنها جزء من حقيقة الحياة الإنتاجية في الاقتصادات العالمية اليوم، والمتمثلة بفكرة خط الإنتاج، والتي ينجز العامل فيها شيءٌ واحد فقط، وبشكل متكرّر طوال سني عمله، مهدراً بذلك طاقته الإبداعية والإنسانية في العدم في سبيل تأمين كسبه ورزقه.
ولعل أهم ما تميّز به العمل هو الطريقة السينمائية الأصيلة في التعبير، من خلال الرمزيات والإسقاطات الفنية والأدبية، نصاً منها وصورة، حيث كانت رمزية الثورة المتجسّدة في الكتاب هي الأهم، فعلى الرغم من القمع والسيطرة المطلقة التي تُمارسها الشركة على موظفيها إلا أنّ خطأً واحداً فقط قام به أحد الموظفين الإداريين كان كافياً لوضع المسمار الأول في نعش ديكتاتورية الشركة، هذا الخطأ كان عبارة عن إدخال كتاب إلى الشركة ليصل الى أحد الموظفين بالخطأ، وهو الشيء الذي يعتبر من المحرّمات في أعراف الآباء المؤسّسين للشركة وقواعدهم الناظمة للعمل فيها، قراءة هذا الكتاب وبشكل سرّي بدأ بتحويل أكثر الموظفين التزاماً بالعمل وخنوعاً إلى قائدٍ للثورة في نهاية العمل، وبالتالي تعود المعرفة برمزيتها ككتاب إلى مكانها الأصلي في حياة البشر.
قراءة الكتاب وبشكل سرّي، بدأ بتحويل أكثر الموظفين التزاماً بالعمل وخنوعاً إلى قائدٍ للثورة في نهاية العمل
في كتابه "المخطوطات الاقتصادية والفلسفية" الذي قام كارل ماركس بكتابتها في أواخر العام 1844 خلال إقامته في مدينة باريس، تحدّث في إحدى ملاحظاته بأنّ ما ينتجه العامل سيتحوّل إلى قوة أو كيان مستقل بحدّ ذاته، ومع الوقت يتحوّل هذا الكيان المستقل إلى واقع بديل مسيطر، ما يؤدي إلى فقدان الحقيقة أو الواقع الأصلي، ويضطر العامل للتماهي مع الواقع الجديد فيكون فيه مستلب الإرادة وأكثر شبهاً بالعبيد.
هذا الواقع الذي تحدّث عنه كارل ماركس هو ما يحاول الموظفون في شركة "لومون" تحدّيه والانتفاض عليه، من خلال طرحهم الأسئلة والاستفسارات عمّا يحيط بهم، محاولين اكتشاف الأقسام الاخرى في الشركة بحثاً عن إجابات جديدة، لتكون هذه الخطوة بمثابة ثورة على الواقع الذي يعيشونه في شخصياتهم الداخلية المنفصلة عن الحقيقة في الخارج، متحدّين جميع الأساليب المخادعة لإقناعهم وردعهم وضمان عدم تعطّل عجلة الانتاج وإبقاء العمل مستمراً.
إنّ هذا التصوّر السوداوي لأشكال ظروف العمل في دول العالم الأول التي افترضها مسلسل "الشطر"، والطريقة التي قد تتحوّل إليها في المستقبل ليست غير واقعية إلا في دول العالم الأول، ولكنها الحقيقة والواقع المعاش في دول العالم الثالث، فمعامل الشركات العالمية للألبسة الأوروبية والأميركية منها، منتشرة في الدول الأكثر فقراً، والعاملون فيها يعانون من ظروف ليست ببعيدة عما تفرضه شركة "لومون" في المسلسل على موظفيها.