أهلاً بكم في زمن اللامنطق
"أهلاً وسهلاً في الوقت الذي انتهت فيه العقلانية والمنطقية، في هذا الزمن ليس هنالك مصيب ومخطئ.. فإما أنت داخل اللعبة أو خارجها".. هذا ما قاله فرانك أندروود Frank Underwood في مسلسل "بيت من ورق" (House of cards)، مخترقاً الجدار الرابع خلال مشهد المساءلة مع لجنة الكونغرس ومخاطباً المشاهد بشكل مباشر.
إن "زمن المنطق" الذي أشار إلى موته الممثل كيفن سبيسي Kevin spacey في شخصيته التي يقوم بأدائها، هو الفترة الزمنية التي بدأت مع موت غاليليو والابتعاد عن الكنيسة وبدء عصر النهضة، عصر التفكير والتنوير.
إشارة أندروود لموت "المنطق" أو "سلطة العقل" التي اعتاد فلاسفة الحداثة أن يجعلوها في المقام الأول، تمر اليوم بزمن التحولات والتبدلات، حيث خرجت الأمور عن السيطرة والمنطق إلى مناحٍ متوحشة في الفردانية والمصالح المتصارعة على حساب المجتمع.
يتحدث الصحافي الشهير آدم كيرتز Adam Curtis في فيلمه الوثائقي الصادر في العام 2016 (HyperNormalisation) كيف تحولت السلطة والقيادة السياسية التي كانت المجتمعات تفوض بها السياسيين لقيادتهم لمستقبل أفضل؛ إلى أيادي أصحاب رؤوس الأموال وجماعات الضغط في ظل فشل الحكومات والسياسيين لفرض رؤى جديدة للواقع والمستقبل، وكانت لأمثال دونالد ترامب وروبرت مردوخ الفرصة والمكان لبدء السيطرة وبناء الإمبراطوريات التي استطاعوا من خلالها شراء السياسيين والصحافيين بداية، وصولاً الى شراء مؤسسات إعلامية وسياسية عريقة بأكملها وتحويلها إلى مصالحهم الشخصية.
شخصية فرانك أندروود المتعلقة بالفن والشعر والمسرح والرياضة، وكونه عضواً في الكونغرس ومن ثم مجلس الشيوخ وصولاً إلى الإدارة الأميركية لم تكن إلا غطاء لشخصية وحشية عديمة الأخلاق والمبادئ، هذه الشخصية التي تمثل الفاسدين في السلطة التنفيذية والتشريعية ليست ببعيدة جداً عن شخصية لوغان روي Logan Roy في مسلسل Succession، والذي يعتبر من أهم الأعمال التي أنتجتها HBO في السنوات الـ10 الماضية عن إمبراطورية الحوت روبرت مردوخ.
لوغان روي هو رئيس إمبراطورية إعلامية وترفيهية وصاحب سلسلة من محطات التلفزة والصحف وسلاسل الترفيه والمنتزهات حول العالم، شخصية فاحشة الثراء، للوهلة الأولى قد يظن المشاهد أن هذه الشخصية هي مجرد شخصية من عقول كتاب العمل، ولكن في الحقيقة هذا العمل مقتبس عن حياة عائلة حقيقية معروفة بعائلة مردوخ، والتي كان لها الدور الأهم في نجاح ووصول العديد من السياسيين الى السلطة مثل طوني بلير وجيمس كاميرون.
لوغان روي وأبناؤه الذين يتصارعون على وراثة منصب أبيهم في العمل ليسوا بعيدين عن أجواء مسلسل "بيت من ورق"، شخصيات قذرة لا أخلاقية لا تعرف حدوداً لفحشها وتوحشها، وطموحها في السلطة لا ينتهي، لكن الاختلاف الجوهري بين العملين هو أن أحدهما يسلط الضوء على الفساد في المؤسسات التشريعية في أميركا والآخر على المؤسسات الإعلامية التي تقود الرأي العام في أميركا وكندا وبريطانيا وصولاً إلى أستراليا.
يقول الممثل وبطل العمل براين كوكس Brian Cox والذي يؤدي شخصية "لوغان روي": "إن العمل هو عبارة عن (عمل سخيف) يمثل الزمن والواقع السخيف الذي نعيش في ظله، خصوصاً حينما تكون الشركات العائلية ومصالحها الاقتصادية تسيطر على المؤسسات الإعلامية الكبرى وتقوم بتوجيه الرأي العام تبعاً لمصالحها".
ليس بعيداً عن هذين العملين يأتينا مسلسل سوتس Suits، والذي يبحر في القضاء والمحاماة ويظهر حجم الفساد والمساومات والأموال الطائلة التي تدفعها الشركات والإمبراطوريات الاقتصادية للمحامين وشركات المحاماة، بالإضافة إلى الرشاوى والمقايضات للوصول إلى غاية ما، سواء إلغاء حكم أو الوصول إلى تسوية أو البحث عن مخرج لأزمة قضائية أو حقوقية بعد سلسلة من الاختراقات للمبادئ والأخلاق والقوانين.
وتعتبر شخصية المحامي هارفي سبيكتر Harvey Specter، والتي يؤديها الممثل غابرييل ماخت Gabriel Macht، هي الشخصية المحورية في العمل، والتي دائماً ما يحاول صناع العمل أن يذكرونا بالجانب الأخلاقي فيها خلال الحلقات، إلا أن مفهوم المقايضة والمساومة والضغط من أجل الوصول إلى السلطة والوصول إلى الهدف يعتبر الركيزة الأهم لهذا العمل، لا أخلاق إلا بالحدود الدنيا.. فالغاية تبرر الوسيلة دائماً.
لعل ما تشترك فيه هذه الأعمال هو الفكرة التي تساعدنا على رسم شكل العالم الحديث الذي نعيش في ظله بداية من الألفية الجديدة، والذي تسيطر فيه الإمبراطوريات المالية على السياسيين والرؤساء وصناع القرار وتتحكم بحياة الشعوب ومصالحها.
يقول الصحافي آدم كيرتز في واحد من لقاءاته: "إن المشكلة ظهرت وبشكل كبير خلال حرب العراق حينما قام السياسيون والصحافيون والكتّاب والمؤسسات الإعلامية الكبرى بالكذب علينا وبشكل علني، عن امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، والتي أدت بطبيعة الحال إلى حرب العراق، وبشكل مباشر وغير مباشر إلى أزمات اللجوء والأزمة الاقتصادية في العام 2008 والعديد من المشكلات حول العالم التي حتى الآن نحن غير قادرون على حلها ونعيش تبعاتها ولم تتم محاكمة أي من هؤلاء بعد أن اكتشفنا كذبهم".
ويضيف: "العالم اليوم تحكمه الإمبراطوريات الاقتصادية ويفتقر فيه الجميع إلى أي رؤية واعدة للمستقبل، بل على العكس أي سياسي لديه رؤية جديدة للمستقبل أصبح يشكل خطراً على النظام العالمي الحالي ويجب التخلص منه".