السخرية الفاقعة في مواجهة موت معلن
هنا، تتخلى السخرية عن كونها فناً خالصاً، فناً معقداً يتطلب تضافر جهود مؤلف وممثل ومخرج، عدا كافة الجهود الفنية لإنجاز العمل الساخر وإيصاله إلى جمهوره.
ضربت البلاد موجة حر خانقة، تجاوزت درجات الحرارة حدودها السابقة، لدرجة أن موجة الحر تحولت فعلياً إلى أحد الأسلحة الفتاكة التي يتعرض السوريون للموت بسببها.
أعلنت سمية في منشور من كلمتين على صفحتها قائلة: أشتهي البردية! والبردية هي حالة مرَضية تترافق مع ارتفاع درجة حرارة الجسم جراء إصابته بفيروس أو جرثومة تسبب التهابا، أو في حالات التسمم أو التحسس. لكن سميّة، هنا وبكل سخرية أعلنت أنها تشتهي المرض وعواقبه فقط لتتنعم ببرودة مؤقتة لعجزها عن تأمينها ليس بسبب الحر فقط، بل بسبب انعدام كل الوسائل الممكنة لمواجهة الحر، وخاصة توفر كهرباء تسمح باستخدام وسائل التبريد التقليدية مثل المكيفات والمراوح، أو طاقة بديلة تستمد الكهرباء من الطاقة الشمسية مباشرة، لكن وللأسف الشديد لا يملك إلا واسعو الغنى والمقتدرين القدرة على تركيبها وتسخيرها لتعويض نقص الكهرباء الدائم، عدا انقطاع المياه بصورة دائمة لدرجة أن غيابها قد يطول لأكثر من أسبوعين، لذلك يضطر السوريون والسوريات في أغلب مناطق سكناهم إلى شراء مياه الشفة الباردة للشرب والطبخ، وذلك بعبوات بلاستيكية صغيرة الحجم لارتفاع ثمنها، كما يضطرون لتعبئة خزاناتهم الفارغة في بيوتهم، وغالباً ما تكون مياها غير صالحة للشرب، من أجل الغسيل والاستحمام وتنظيف البيوت، وكل هذا بمبالغ طائلة تعجز الغالبية عن تأمينها.
نسي السوريون والسوريات البحر فعليا، عجزهم المادي المقيم والمتفاقم أنساهم أيضاً احتمال الذهاب إلى المسابح القريبة أو حتى زيارة القرى القريبة والباردة نسبياً في نزهات قصيرة، أي السيران التقليدي الذي طالما كان تقليداً شعبياً يمارسه حتى البشر ذوو الحالة الاقتصادية ما دون المتوسطة، مثل زيارة بلودان والزبداني وعين الفيجة وسواها من أماكن السياحة الشعبية.
تسبب ارتفاع أجور وسائط النقل لضعفين أو أكثر إلى إلغاء عادة الذهاب إلى الحدائق العامة بسبب ضيق ذات اليد، وتحولت وسائط النقل العامة إلى أماكن ضيقة ومزدحمة يكثر فيها التحرش والنشل والاعتداء الجسدي
كما تسبب ارتفاع أجور وسائط النقل إلى ضعفين أو أكثر في إلغاء عادة الذهاب إلى الحدائق العامة بسبب ضيق ذات اليد، وتحولت وسائط النقل العامة إلى أماكن ضيقة ومزدحمة يكثر فيها التحرش والنشل والاعتداء الجسدي واللفظي على الركاب، وخاصة على النساء والفتيات، فالتزم الجميع بيوتهم التي تحولت إلى ساحات نزاع عائلي خانقة، لدرجة أنه ومن شدة الضيق، بات الجميع يصف بيته بالسجن، وتعلّق إحداهن قائلة: "بتنا حتى داخل بيوتنا نحلم بالعيش في زنزانة منفردة، لقد تعبناً جداً من كثرة الطلبات ومن التذمر ومن طلبات الأطفال البسيطة لكن المستحيلة، وضاق كل شيء حولنا وكأننا نعيش في مهجع جماعي لبشر غرباء عن بعضهم بلا مياه أو نوافذ للتنفس! وهذه استعارة مؤلمة ساخرة جدا لكنها محزنة أكثر".
كتب أحدهم على ًصفحته الخاصة على "فيسبوك" نصيحة خاصة، دعا عبرها الجميع إلى الإكثار من شرب المياه في خضم هذه الأجواء الحارة جداً للحفاظ على صحتهم وحماية أنفسهم من شر الأمراض القاتلة، لكن منطلق أو دافع نصيحته محزن جداً، ويكثف السخرية السوداء في أبلغ معانيها، إنه يدعو الجميع للحفاظ على كلاهم (جمع كلية) ليس لضمان حياة طويلة وصحية أبدا، بل لسبب أنهم قد يضطرون لبيعها ليتمكنوا من مواصلة البقاء على قيد الحياة هم أو أفراد عائلاتهم، مما تدره عليهم تجارة الأعضاء البشرية! تخيلوا أن تحافظ على أحد أعضاء جسدك فقط من أجل أن يلقى رواجاً في سوق الأعضاء البشرية! إنها السخرية القاهرة التي تفرضها حياة لا تنتمي لأولويات الحياة الآدمية الكريمة، والسخرية هنا مجرد جرح غائر في جسد لا يمتلك أدنى مقومات القدرة على البقاء في خضم أمواج الموت المعلن.