الساكن والمتحرك في الانتماء للوطن
عزيز أشيبان
من النافل القول إن محاولة مقاربة حقيقة الانتماء الوطني تحيل على ذخيرة من الحمولات المعنوية والرمزية القادرة على خلق التغيير ورفع التحديات، التي تنحو بالمرء نحو التضحية في سبيل الوطن وصون كرامته وهويته والإسهام الفعلي في تنميته.
غالبًا ما ينحصر الانتماء للوطن في أحضان الانتماء البيولوجي والوجداني، حيث الرابطة الطبيعية بالآباء والأجداد والتاريخ والحمولة الثقافية والنفسية والذهنية، غير أن هذه الرؤية تبدو سطحية، إذ يكتسب بموجبها الانتماء إلى الوطن بمجرد وقوع حدث الولادة في بقعة جغرافية معينة يقصي عناصر أكثر عمقاً ودلالة.
هناك من يربط الانتماء للوطن بالمكان الذي تصان فيه الكرامة والحقوق، وتتوفر سبل السعي نحو الرزق، وتتاح للإنسان فرص إبراز الذات واستشعار الهوية بغض النظر عن مكان الولادة، وتتحقق بذلك علاقة تفاعلية عقلانية بين الوطن والمواطن، حيث تبادل عمليتي الأخذ والعطاء. هل يمكن إسقاط هذه المقاربة على دول المنطقة العربية؟
نميل بقوة إلى القول إن مواطن المنطقة العربية يمتلك انتماء وجدانياً قوياً يتعدى حدود الدولة القطرية ويجعله مهووساً بهموم وقضايا المنطقة العربية ككل. من منا من لا يتفاعل مع قضية فلسطين ولا يعتبرها قضيته أو مع الوحدة الترابية وسيادة كل دولة عربية؟ لكن هل نال هذا المواطن ما يستحق من الاحترام والوقار والإجلال مقابل عطائه اللامحدود؟
حقيقة، أدى المواطن العربي الثمن الباهظ من خلال تعايشه مع الخيبات المتتالية والإرادة الحقيقية في الخوض في تجارب التنمية المؤجلة، وفشل صناع القرار في احتضان طموحاته وتطهير المنطقة من خزي التخلف والتبعية. لا غرابة إذاً أن تختار جيوش من المواطنين في المنطقة العربية مكرهة الهجرة بحثاً عن موطن الكرامة وبيئة التعبير عن الذات.
هناك من يربط الانتماء للوطن بالمكان الذي تصان فيه الكرامة والحقوق، وتتوفر سبل السعي نحو الرزق، وتتاح للإنسان فرص إبراز الذات واستشعار الهوية بغض النظر عن مكان الولادة
هل تساءل صناع القرار عن إمكانية فتور الحس الوطني لدى الناس وعن انعكاساته؟ أم أن لسان الحال عندهم يقول: هذا هو واقع البلد اقبل أو انصرف.
نحن بصدد إثارة عدة تساؤلات تفرض نفسها وتستدعي التدبر والتناول. هل معطى الانتماء إلى وطن ما معطى ساكن أم متحرك؟ هل هو من المسلمات غير القابلة للنقاش أم أنه متغير، قد يكون موضوع زوال أو اكتساب؟
من الطبيعي أن يستقر الانتماء الوجداني في قلب المرء من خلال رابطة المنبع والجذور، حيث التعلق بالآباء والأجداد وعناصر البيئة الأصلية. كما قد يكون الأمر تجسيداً لنشاط مجموعة من الأحاسيس والمشاعر التلقائية التي تسيطر على الفرد ونوعية سلوكه داخل منطقة الانتماء. لكن أليس مطلوباً أن ينتقل الانتماء الوجداني من نطاق الحس الوطني الصرف إلى مستوى الانتماء الفعلي، حيث الحركة والمحاولة والانخراط والإنتاج حتى يقع الترسخ والنضج والتوظيف العقلاني لحمولته الإيجابية وشحناته التحفيزية؟
ثمة عوائق بنيوية تحول دون حدوث هذا الانتقال، وبالتالي تعميق الهوة والدفع بآثارها إلى مستوى الخطورة والتهديد لمستقبل البلد وأفراده على حد سواء. نتحدث هنا عن البنيات الثقافية والذهنية التقليدية المتزمتة التي تختزل الانتماء في القبيلة والعرق والمعتقد، التزمت والتشدد ومصادرة حق الاختلاف، الإقصاء من دائرة القرار وتحويل نوعية التعاقد السياسي إلى وصاية وتسلط، الظلم الاجتماعي وتقسيم البلد الى نخبة محظوظة منتفعة وغالبية مسحوقة.
كل ما ذكر من مدخلات يؤدي دون شك إلى إنتاج مواطن سلبي لا يبدي غير اللامبالاة والاستسلام، نفور الناس من الشأن السياسي، نشاط قيم التواكل والتقاعس والفكر الانهزامي، مصادرة الحقوق الفردية والجماعية، الإجهاز على الطموحات، تواصل منعدم بين الحكامة القائمة والشعب، و الازدراء والتبخيس من كرامة الناس التي تجسد كرامة الوطن وعزته وكبرياءه.