الرجل الذي باع روحه للشيطان بلا ثمن

24 يونيو 2024
+ الخط -

أسقطت مأساة غزة ورقة التوت الأخيرة عن فئة ليست بالقليلة بين ظهرانينا، فئة تخلت عما تبقى من مبادئ، ولجأت إلى تملق المجرمين المغرقين بالتآمر على غزة وأهلها على حساب حقوق الضحايا، فئة تستبسل في الدفاع عن الباطل ومحاولة إضفاء صفة الحق عليه حتى لو عنى ذلك المشاركة بشكل مباشر أو غير مباشر في قتل الأبرياء في غزة وغيرها. وتُثير هذه الظاهرة أسئلة مهمّة حول دوافع هؤلاء الأفراد وأطرهم الأخلاقية: هل سلوكهم انتهازي أم شر مطلق أم شيء آخر تمامًا؟

وهنا أتكلّم تحديدًا عن ذئاب صهاينة العرب المتخفّين في ثياب الحملان، الذين تقزّم أسيادهم ومنظوماتهم أمام صمود وبطولة وتضحيات أهل غزة، فكشّروا عن أنيابهم، وتفانوا في تبييض صفحة الجاني وشيطنة الضحية، ضمن سلوك أو نهج لا يمكن وصفه إلا أنّه انتهازية في الصميم، سلوك تفشّى خصوصًا بين من يصنّفون ميسوري الحال اقتصاديًا واجتماعيًا، حيث يعطي هؤلاء الانتهازيون المتسلّقون الأولوية للمكاسب الشخصية المحتملة مستقبلًا على الاعتبارات الأخلاقية، ويستغلون المواقف لصالحهم بغض النظر عن التكلفة الأخلاقية. وفي سياق الأنظمة الاستبدادية، قد يعتقدون مخطئين أن التوافق مع السلطة أو الطرف المستبد الأقوى سيضمن لهم السلامة أو المكانة أو الموارد. ومع ذلك، فإن المفارقة هي أن مثل هذا التوافق لا يحقق في غالب الأحيان سوى فائدة ملموسة قليلة لفئة محدودة جدًا، بينما يجد الكثيرون ممن تملقوا المجرمين وشيطنوا الضحايا أنهم قد باعوا أرواحهم للشيطان بلا مقابل، وأصبحوا منبوذين، ولو بعد حين، عندما ينتهي دورهم أو تتضاءل الحاجة إليهم من قبل من تملّقوهم أولًا، ومن قبل مجتمعاتهم ثانيًا.

ذئاب صهاينة العرب المتخفون في ثياب الحملان، الذين تقزّم أسيادهم ومنظوماتهم أمام صمود وبطولة وتضحيات أهل غزة، كشّروا عن أنيابهم

ولربما قد يلعب الخوف دور الحافز في بعض هذه السيناريوهات، مع أنه بالتأكيد ليس عذرًا، وخصوصًا أننا نتكلم عن فئات غالبيتها قادرة وليست مستضعفة، حيث إن الأنظمة الاستبدادية بشكل عام تتغذّى على غرس الخوف، وخلق بيئة يكون فيها أي شكل من أشكال المعارضة خطرًا مطلقًا على المعارضين، ولا يختلف في ذلك أي نظام من جمهوريات الموز عن أي نظام غربي قمعي مدّعٍ للحرية والديمقراطية، كما أثبتت الأشهر الأخيرة، حيث ما زالت الكثير من الطبقات الحاكمة حول العالم تحاول قمع أي صوت حر يدافع عن الضحايا في غزة.

وهنا قد يدير البعض ظهورهم للمبادئ، ليس بسبب الدعم الحقيقي للمجرمين، بل بسبب حاجتهم الماسة إلى البقاء، والتي يربطونها مخطئين بدعم القتلة الذين يعتقدون أنهم سينتصرون في الحلقة الأخيرة، مبررين سلوكهم على أنه ضروري للبقاء، ومقنعين أنفسهم بأن البقاء يبرر التنازل الأخلاقي. وغالبًا ما يتضمن هذا التبرير في حالتنا تجريد أولئك الذين يعانون في غزة من إنسانيتهم، مما يجعل من السهل التغاضي عن الفظائع المرتكبة ضدهم من قبل الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أميركيًّا.

وشخصيًا يبدو لي وصف مثل هذا السلوك بأنه شر مطلق أمرًا مناسبًا، خاصة عند النظر في العواقب الوخيمة لأفعال هؤلاء الانتهازيين على الأبرياء. ومع ذلك، يتطلب هذا المنظور دراسة أعمق للقصد والسياق، إذ إن الشر المطلق يستوجب اختيارًا واعيًا ومتعمدًا لإيذاء الآخرين من أجل المصلحة الشخصية. وفي حين أن بعض الأفراد قد يندرجون بالفعل ضمن هذه الفئة، إلا أن البعض الآخر قد يكون مدفوعًا بشبكة معقدة من العنصرية والترهيب والتلاعب وخداع الذات وضعف الإيمان. وعلى الرغم من تعدد الأسباب فإنها جميعًا لا تمثل عذرًا لمثل هذا الفعل الشنيع في محاولة تبييض صفحة الجاني وشيطنة الضحايا، فأحد الجوانب الأكثر خبثًا لتملق الجناة هو التآكل التدريجي للمعايير الأخلاقية مع العلم بأن عواقبه تشمل وضع حيوات الأبرياء على المحك، حيث يبدأ هؤلاء الأفراد الانتهازيون بتنازلات بسيطة في الغالب، والتي تتصاعد إلى تجاوزات أخلاقية أكثر خطورة.

وغالبًا ما تبدأ العملية بتبرير أفعالهم لتتوافق مع تصوراتهم الذاتية، من خلال سرديات مصطنعة ومضللة وركيكة يعكفون على تكرارها حتى يصدقها بعضهم حقًا. وبمرور الوقت، تتضاءل قدرتهم على التعاطف، ويصبحون غير حساسين تجاه معاناة الآخرين بشكل عام، وفهم هذا التجرّد التدريجي من الإنسانية يساعد في فهم سبب استمرار مثل هؤلاء في دعم الجناة والأنظمة القمعية على الرغم من الافتقار الواضح إلى المكاسب الشخصية.

في نهاية المطاف، لا يمكن تصنيف سلوك أولئك الذين يتخلّون عن المبادئ من أجل تملق الجناة بدقة. إنه مظهر من مظاهر الانتهازية المتشابكة مع النفس الشريرة وشيء من رغبة الحفاظ على الذات ممزوجة بالتآكل الأخلاقي. وفي حين أن بعض الأفراد، وخصوًصًا في حالة غزة، قد يتصرّفون بدافع الحقد المطلق، فإن كثيرين آخرين يقعون في فخ نفسي واجتماعي وسياسي يشوه إحساسهم بالصواب والخطأ.

إن فهم الدوافع الأساسية وراء هذه الانتهازية يمكن أن يُساعد في تطوير استراتيجيات لمعالجة مثل هذا السلوك ومواجهته، وتعزيز ثقافة النزاهة والشجاعة الأخلاقية والدفاع عن الحق في مواجهة السلطة القمعية والجناة حتى لو كانت الدولة العظمى في العالم. وهذا السلوك اللاأخلاقي اتجاه الإبادة الجماعية في غزة، سيتكرر مستقبلًا تجاه أي فئة مستضعفة أخرى تستهدفها القوى المسيطرة، وهنا فقط من خلال مواجهة هؤلاء الانتهازيين ودعايتهم المضللة يمكن للمجتمعات أن تأمل في منع تكرار مثل هذه الأنماط وحماية حقوق وكرامة جميع الأفراد.

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.