اللاجئون العالقون في شباك القانون
وسطَ النسيجِ المُعقّد لمنظومةِ حياتنا المعاصرة وخيوط الأنظمة والهياكل القانونية والمجتمعية المتشابكة، التي أرسينا أسسها على مدى عقودٍ أملًا في تحقيق عدالةٍ منشودة، ما زال الإنسان العادي يُواجه الصعوباتِ في الوصولِ للعدالة، وهنا تتكشف حقيقة صارخة، غالباً ما يتم التغاضي عنها مهما تشدّقنا بقيمِ العدالة والإنسانية، ألا وهي الصراع العنيف الذي يواجهه اللاجئون في محاولتهم الوصول إلى العدالة عند أيّ نزاع مع القانون. فبالنسبة لهذه الفئة المثقلة بالفعل بهمومِ وتبعاتِ النزوح والصدمات، يمثّل التنقل بين تعقيدات الأطر القانونية وسط التمييز المتجذّر أصلًا، تحدّيًا هائلاً، وهو التحدّي الذي يؤدّي غالبًا إلى دورةٍ مُحبطةٍ من التهميش والظلم.
فمن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في البلدان التي يلوح فيها شبح النزوح، يظلّ الوصول إلى العدالة حلماً بعيد المنال بالنسبة لغالبية اللاجئين. فعلى الرغم من الوعود النبيلة المنصوص عليها في الاتفاقياتِ والعهود الدولية، وكلام الساسة المعسول وهم يطلبون المساعدات الدولية لمواجهةِ أمواج النزوح، فإنّ الواقع على الأرض يرسم صورةً مختلفة كليًا، شابتها الحواجز القانونية والنظامية والإهمال المؤسّسي، بالإضافةِ إلى التحريضِ الممنهج من قبل الطبقاتِ الحاكمة التي وجدت في اللجوء كبشَ الفداء والعلاقة التي ألقت عليها جميع أسبابِ فشلها والمشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية الهيكلية التي راكمتها نفس هذه الطبقات الحاكمة على مدار عقودٍ من الزمن، بسبب فسادها أو سوء إدارتها. فمنذ اللحظة التي يفرّون فيها من أوطانهم بحثًا عن ملاذٍ آمن، يجدُ اللاجئون أنفسهم عالقين في شبكةٍ من التعقيدات القانونية، شبكة قد يصبح الحصول على أبسطِ الحقوق فيها سرابًا بعيد المنال.
تبدأ الرحلة بالمهمةِ الشاقة المتمثلة في طلبِ اللجوء أو الحصول على أيّ شكلٍ من الإقامة الشرعية في البلد الذي تمّ النزوح إليه، وهي بحدّ ذاتها عملية محفوفة بالعقبات البيروقراطية والتأخيرات الإدارية ومخاطر الاستغلال. بالنسبة للاجئين، غالبًا ما يُترجم هذا إلى أشهر، إن لم يكن سنوات، من عدمِ اليقين والقلق والخوفِ والترقب، وهم يتنقلون عبر نظامِ لجوءٍ أو إقامةٍ مُعقّد على أملِ الحصول على الحمايةِ والبدء بحياةٍ طبيعيةٍ جديدةٍ يستحقها كلّ إنسان. ومع ذلك، حتى بعد حصولهم على أيّ شكلٍ من اللجوء، فإنّ نضالهم لا ينتهي أبدًا، فالكثير منهم في العديد من البلدان سيبقون تحت رحمةِ مقصلة الإبعاد أو الترحيل عند أبسطِ خلافٍ مع القانون، ترحيل قد يكلفهم حياتهم فعليًا في بعض الحالات عندما يتم إبعادهم قسرًا إلى البلدان التي فروا منها خوفًا على حياتهم أصلًا، أو عندما تقرّر الطبقة السياسية في بلدٍ غربي مزدوج المعايير أنّ بلدهم الأصلي الذي ما زالت النزاعات المسلحة تمزّقه، قد بات آمنًا! وفي كثير من الحالات الأشدّ بساطة، يجدُ اللاجئون أنفسهم مدفوعين إلى مناطق قانونية غير مألوفة، تُشكّل فيها حواجز الأنظمة والتمييز والاختلافات الثقافية واللغة عقبات هائلة أمام وصولهم للعدالة.
يجدُ اللاجئون أنفسهم متورطين في شبكةٍ من السياسات والتدابير العقابية غير المتوازنة أو المُنصفة، مما يساهم في نفورهم من اللجوءِ للقانون ومحاولةِ حلِّ النزاعات خارج الأطر النظامية
علاوة على ذلك، غالباً ما يتم تهميش اللاجئين وحرمانهم من حقوقهم داخل المجتمعات التي يلتمسون اللجوء فيها، مما يزيد من تفاقم ضعفهم. وتزيد الطين بلّة العنصريةُ وكراهية الأجانب عندما تُطلّان برؤوسِهما القبيحة، ويبدأُ تحريض الساسة والطبقات الحاكمة على اللاجئين، وشيطنتهم وافتراضِ إجرامهم دون أن يُقدِموا على أيّ فعلٍ غير قانوني أصلًا، حيث تلقي العنصرية المُمَأسسة بظلالها على سعي اللاجئين لتحقيق العدالة، وتديم دوائر التهميش وتبقيهم في دائرةِ خطر الاعتقال، وحتى الترحيل عند أوّل نزاعٍ مع القانون، نزاع قد تكون نتيجته بالنسبة للإنسان العادي تنبيهاً شفهياً من أجهزةِ إنفاذ القانون متبوعًا بعبارة "الله معك". وفي مثل هذه البيئات، يجدُ اللاجئون أنفسهم تحت رحمة الممارسات الاستغلالية والظلم المنهجي، مع عدمِ إمكانية اللجوء إلى الحماية القانونية أو الانتصاف في كثيرٍ من الحالات، وخصوصًا في البلدان التي قد تعطي صلاحيات التعامل مع مثل هذه الحالات لأجهزةٍ تنفيذية خارج سلطةِ القضاء.
ففي قلبِ هذه المعادلة يكمنُ اختلالٌ جوهري في توازنِ القوى. اختلال قائم على التفاوت الذي يميل ميزان العدالة المعطوب فيه ضدّ أفراد المجتمع الأكثر تهميشاً وضعفاً. ويجد اللاجئون، الذين جُرّدوا من منازلهم وسبلِ عيشهم، أنفسهم غير مجهزين للتعامل مع تعقيدات الأنظمة القانونية المصمّمة في كثير من الأحيان لخدمة النخب، وغالبًا ما يشاركهم في ذلك المهمشون من البلد الذي نزحوا إليه، حيث إنهم جميعًا يفتقرون إلى الموارد المالية وشبكاتِ الحماية المجتمعية اللازمة للوصول إلى المساعدة القانونية، مما يتركهم بلا أيّة آلياتٍ دفاعية في مواجهة الشدائد، وحتى في الحالات التي يتمكنون فيها من الوصول للمساعدة القانونية، سيجدون أنفسهم في مواجهة منظوماتٍ صُمّمت بقصدٍ، أو عن غير قصدٍ، بشكلٍ يهمشهم ويتعامل معهم بعنصريةٍ وقسوةٍ لا تتناسب فيها العقوبات مع الفعل كما أشرت سابقًا، حيث يجدُ اللاجئون أنفسهم متورطين في شبكةٍ من السياسات والتدابير العقابية غير المتوازنة أو المُنصفة، مما يساهم في نفورهم من اللجوءِ للقانون ومحاولةِ حلِّ النزاعات خارج الأطر النظامية، مجبرين على المغامرة وتعريض أنفسهم لمخاطرِ الاستغلال والغرق أكثر في دواماتِ الظلم والإحباط.
معالجة هذا الظلم المنهجي تتطلّب من الجميع بذل جهودٍ متضافرةٍ على جبهاتٍ متعدّدةٍ، تبدأ بالاعتراف بالكرامة المتأصلة لكلِّ فردٍ وحقّه بحياةٍ كريمةٍ بغضِّ النظر عن خلفيته، وإعادةِ تصوّر الأنظمة القانونية بشكلٍ تكون فيه شاملة ويُتاح للجميع من خلالها الوصول للعدالة بسهولةٍ ويُسرٍ، بغضّ النظر عن الجنسية أو الوضع القانوني، بالتوازي مع مكافحةِ العنصرية وخطاب الكراهية ضدَّ اللاجئين والتوقف عن شيطنتهم. وهو ما يتطلّب توفير المساعدة القانونية الكافية وبجودةٍ عالية، وتقديم خدمات الدعم، وتطوير شبكاتِ الحماية المجتمعية لضمان حصول اللاجئين والمهمشين في المجتمعاتِ المستضيفة على الأدوات التي يحتاجونها للتعامل مع تعقيدات القانون.