الحروب الأهلية الفكرية أو ملّة المثقف الشاتم
يبدو أنّ معركة "المثقف" غيّرت ساحتها ووجهتها، من التنافس الفكري والمعرفي ومسائل النظر على الورق، إلى الاشتغال في ورشة ثقافة الردود، وخوض حروب أهلية فكرية بين عائلة المثقفين، باسم "نقد المثقف"، وذلك بهدف تملّق الجمهور، "جمهور المثقف" طبعاً، وليس جمهور الثقافة.
وفي ظلّ هذه المضاربات، حيث وجه الوجاهة هو الألق الخطابي وسك ألطف الشتائم، وتوزيعها على المنافسين، ونيل رضى المصفقين الذين يهللون وينتشون بأفضل الردود وأطرف الشتائم عبارة، وأغورها إساءة، في جو ما بعد التنافس التواصلي، يتصدره حديث الإساءة، للظفر بانتصارات كلامية حول رهانات عابرة، تجعل الثقافة اليوم عاطلة أو خارج الخدمة، خدمة السامي من القيم، حيث الانخراط اللاواعي، من قبل مفكرينا اليوم أو الذين نحسبهم كذلك في مسار اللطم الفيسبوكي المتبادل عوض التنابز بالكتب أو الاحتراب العقلي حول فكرة من الأفكار أو منهج من المناهج، ما يحقّق النقاش الثقافي العمومي ويزكي مسيرته نحو الإبداع في جو من الاستمرارية والحوارية الفكرية، قلت عوض ذلك كلّ يحسب نفسه ضمن الفرقة الناجية فيبجل منجزه ويلفه بالحرم ويقيم له الطقوس ويطلي به حائطه، ويبخس أعمال غيره في ضرب من النرجسية الفكرية التي تجعله لا يرى تحقّق ذاته إلا بتبيان تهافت أطروحات الآخرين ووهنها.
ورغم شعار النقد الذي تصدح به الأفواه والأقلام وتستفيض في شرحه الكتب، إلا أنّ نقدية المثقف ما زالت لم تتجذّر بعد في الممارسات الثقافية، وحتى في تفاعلاته اليومية. فثمة مسافة فظيعة بين الكاتب وكتبه، ولو أمكن لها أن تتحدّث لتبرّأت منه كما تبرّأ منها في ممارساته وتفاعلاته. لقد أصبح نقد المثقف موضة غير مؤسسة تمارس بأدوات غير فكرية تجعلنا نتعجب من حجم الضغينة التي يكنها بعض المثقفين لبعضهم الآخر، والتي بدأت تطفو إلى السطح، ولم تعد تتحرّج من ذلك في استنزاف العبارة والجهد الفكري، حتى إنّ جنساً أدبياً يكاد يتفتق في ظلال هذه المعارك، يمكن أن نسميه أدب الشتائم!
على الرغم من أنّ عائلة الفكر يفترض أن تكون خادمة لأميرة وحيدة، هي "الحرية"، ولكن ليس تلك الحرية الغادرة التي نراها اليوم، أي تلك التي تمنحك فرصة التحرّك وتمنح الآخر فرصة الانقضاض على حركتك، ولكن حرية حرّة، تحرّر العقل والسلوك والمجتمع من كلّ أنواع التسلط، إلا أنه رغم ذلك يرتضي البعض لنفسه السباحة ضد هذه الموجة "موجة التحرير"، فيشارك بكلّ ما أوتي من أقلام في حرب ضد الثقافة والمثقفين، وفي الأخير ضد نفسه، في زمن تزمين القضايا وديمقراطية الانفعال، إنّ المهمة الأولى للمثقف اليوم هي التخلّص من كلّ ما هو مضاد للثقافة فيه.
مثقف! يحسب نفسه ضمن الفرقة الناجية، فيبجل منجزه ويلفه بالحرم ويقيم له الطقوس ويطلي به حائطه
لقد جثمت السلطة اليوم على قلب المثقف، فغرق في علاقة غرامية غامضة معها، يعتقد أنها تحبه وهي لا تحب سوى زلات قلمه المنعطف الذي يتحايل على روحه، روحه العارفة المفترضة، وليس روحه المستلبة، حيث لا يمكن أبداً للمعرفة أن تكون موالية، فالمعرفة محايدة بلا رجعة.
وحيث إنّ القلم الحق لا يتملّق أحداً مهما كان قدره عظيماً، فإنّ كلّ الأقلام العارفة الصامتة ظالمة، حيث يعتقد المثقف أنّ الصمت يرفع عنه الحرج الأخلاقي، محاولاً ترويض الصوت والقلق الذي ينهشه من الداخل، والذي من المفترض أن يتحوّل إلى صوت نشاز وسط موسيقى الاستسلام المعمّم وصرخة مبدعة ومزعجة تلقي بحجارة مقاومة في بركة الفواجع وسيل الشطط الهائج المنذر بتقدّم التراجع وتراجع التقدم. عوض ذلك، يتحوّل صوت صاحبنا المثقف المعظم إلى لحن منسجم ومكمل لنغمة الإخضاع، بل ومليّن لوجبة السلطة حتى يسهل هضمها وإيلاجها بمرونة في آخر معقل للمقاومة ترابط فيه الضمائر الحرّة، كما تحوّل آخر إلى مثقف ملتزم ولكن بالصمت، متحايل على سارتر ومحيل على الطرف السمين من البقرة.
وإلى حين أن ينهض الحق النائم فيك نقول لك: "فإن لم تستطع فبقلبك".