الحرب خطيئة كبرى
من عاش أهوال الحرب وما زال يعيشها يمتلك تعريفاً مختلفاً للحرب، تعريفا تفصيلياً وكأنه يشرح مشهداً في فيلم، تصبح كل التعريفات النظرية مجرد كلمات جوفاء وصماء وبكماء وبلا معنى.
أهو امتياز أن يتغلب الشخص الواقع بين براثن الحرب على اللغة الجافة؟ قطعاً لا! لكنه يمتلك الحقيقة وربما المعرفة الجليّة عبر لغة حية ويومية، الأكثر رعباً في تصوير تفاصيل الحرب أو توصيف الحياة فيها، هو الإبداع في الأشكال اليومية للقهر. حرب وإبداع؟ ما هذا التناقض المهول والذي يخالف أصول المنطق! لا غرابة في أي شيء، هي الحرب، خلّاقة في إبداع المزيد من الصور، المزيد من العذابات، المزيد والجديد والمختلف من كافة أنواع القهر.
تزور سمر صديقتها في العاصمة، ينقضي جزء كبير من الزيارة حول التمييز القائم ما بين العاصمة وأهلها وما بين سكان ريفها، هي بضعة كيلومترات فاصلة ما بين سكن الصديقتين. ما السر إذن في تمييز بالتزويد بالكهرباء يتجاوز الساعات الست يومياً؟ هنا تغدو المفارقة أشد ألماً، لم تعترض السيدتان على انقطاع للكهرباء يتجاوز العشرين ساعة يومياً في بعض المناطق، بل نمت بينهما فجأة جبال من التناقضات قد تصل حد الاتهامات من سيدة لصديقتها (شو الفرق بيني وبينك حتى تكون الكهرباء عندك أحسن؟)، هل هي لعنة الجغرافية؟ لعنة التهميش؟ لعنة مراكز القوة والتلاعب بالأضعف؟ لا جواب أبداً، وكل إجابة مدخلٌ للغوص في أشكال تمييز مختلفة تنبع كلها من مصدر واحد هو التمييز العام الذي يتوالد بعنف وتجاهل بشع لتكريس التمييز وكأن البشر أنفسهم هم المسؤولون عنه! وكأن عدد ساعات التزويد فضل يحرم أهل بعض المناطق إخوتهم في الوطن منه! إنها الكوميديا السوداء الأكثر قتلاً للروح.
هنا تبرز الحرب كخطيئة كبرى تشهر معول الهدم غير القابل لإعادة البناء ما بين الأخ وأخيه والقريب وقريبه والصديق وصديقه، وكلهم ينبغي أن يكونوا شركاء في نفس الجغرافية.
الحرب خطيئة كبرى عندما يقارن البشر حاجتهم للغذاء بناءً على درجة الجوع وليس على الحق الطبيعي والمضمون بالطعام، عندما يعتبر الأخ أن أخاه لا يحتاج أي مساعدة لأن لديه راتبا تقاعديا، راتبا لا يكفي لسداد فواتير الخدمات الأساسية وربما دفع قيمة ربع كمية دواء الأمراض المزمنة اللازمة شهرياً، وعندما تعتبر بعض الأمراض خارج خطط الدعم المجتمعي بذريعة أنها غير مميتة.
اعتاد السوريون والسوريات على رؤية الخراب، لم يتقبلوه، لكنهم تعايشوا معه. خراب معمم طاول الجميع، فمن بقي بيته قائماً ولم يمسه سوء، انقطعت عنه وسائل الحماية والتدفئة والتبريد
اعتاد السوريون والسوريات على رؤية الخراب، لم يتقبلوه، لكنهم تعايشوا معه. خراب معمم طاول الجميع، فمن بقي بيته قائماً ولم يمسه سوء، انقطعت عنه وسائل الحماية والتدفئة والتبريد.
فجأة اكتشف البشر أن كل المال الذي ادخروه لشراء الأدوات الكهربائية كان خسارة فادحة، خسارات تنتصب أمام عيونهم كلما فتحوا خزائن المطابخ، حيث لا كهرباء لتشغيل عصارة الفواكه الكهربائية، وإن وجدت الكهرباء لوقت قصير، تقف غالبية الناس عاجزة عن شراء قطعة واحدة من الفواكه، والمكنسة الكهربائية ترقد حزينة، منسية ومهملة يأكلها الغبار بعدما تخلى معظم السوريين والسوريات عن مد السجاد لغياب القدرة على تنظيفه لنقص الكهرباء والصيانة وتقدم من تبقى من أصحاب البيت في العمر وإصابتهم بانعدام القدرة على التنظيف وربما بانقطاع الرغبة بسبب العزلة والوحدة الخانقة وضيق ذات اليد.
الحرب خطيئة كبرى عندما يلفظ الوطن أبناءه وبناته بذريعة الحماية، وحينما يضطر الشباب والشابات للجوء في عملية هي في الحقيقة هروب من ضراوة نار الحاضر وخطر حرائق المستقبل، الحرب خطيئة كبرى عندما يعلق الجميع عثراتهم وأخطاءهم ومصائبهم عليها دونما أي رغبة بالنجاة أو مد اليد للآخر علّه يبقى شريكاً وسنداً.