الحربُ التي خنقت استعاراتنا
في أحد اللقاءاتِ في نادي القراءة الذي أرتاده، سألتني صديقتي عمّا تُمثّل لي الكتابة، فأجبتها بأنّها بالنسبة إليّ، تدفُّق وانسكاب، ثورة وجموح، فهم وتعقّل. وفي لقاءٍ آخر من تلكَ اللقاءات، ولمّا شاركتُ رأيي في أحد الكتب، أثنتْ سيّدة تحضر إلى نادينا لأوّل مرّة على قدرتي الهائلة في التعبير، وإجادتي انتقاء الألفاظ المناسبة في موضعِ النقاش.
كان الكتاب الذي ناقشته يومها هو كتاب "وأد الانثى؛ بين النصوص المقدسة والعقدة الذكورية"، ولكون الكتاب له علاقة باشتغالاتي النسويّة، من حيث تركيزه على مضامينِ التسلّط الذكوري المُضمر والمخفي في متونِ النصوص الفقهية، فقد أظهرتُ بعض الانفعال في أثناء المناقشة، لكنّ ذلك الانفعال (بناءً على شهادة تلكَ السيّدة) لم يحدّ من قدرتي على انتقاءِ الألفاظ الدقيقة واستخدامها في التعبير.
لعدّةِ أيّام بعد ذلك اللقاء، ظللتُ أفكّر في ما قالته السيّدة عنّي، وفي امتداحها قدرتي على التعبير، وخطَر على بالي في أثناء تفكيري في ذلك المديح مقطع شعري لمحمود درويش يقول فيه: "وأنتَ تُحرّر نفسكَ بالاستعارات، فكّر بغيرك، من فقدوا حقّهم بالكلام". وقلتُ في نفسي إنّني طالما استخدمت الكتابة وسيلةً للتحرّر، التحرّر من كلّ معضلة حياتية أمرّ بها، وتقفُ في حلقِ وجودي كغصّةٍ غير قادرة على التعامل معها وابتلاعها، وطالما كتبتُ حياتي لأسهّل على نفسي مسألة فهمها والتعامل معها، ولأوفّر لنفسي فرصةً للتخلّص من معضلاتها، أو لأقل غصّاتها.
طوال حياتي، كنتُ أتعاملُ مع الكتابةِ وسيلةً للتحرّر عبر طُرق البوحِ والتعبير، لكنّني اليوم أقفُ أمام حربِ الإبادةِ التي تجري في غزّة، ولا أشعر بشيءٍ إلا بالقصور؛ قصور اللغة والتعبيرات، قصور الاستعارات والمجازات، قصور الكنايات والتصويرات.
طوال شهور عديدة سابقة من حربِ الإبادة، كنتُ حريصةً على كتابةِ مقالةٍ أسبوعيةٍ عنها، أقفُ فيها على بعض الأحداث البارزة لأصف بشاعتها، ومع كلّ مقالة جديدة كنتُ أكتبها يزدادُ شعوري بالاختناق.
ما نكتبه عن الحكاية وتفاصيلها يخنقنا ويقفُ في أجوافنا كغصّةٍ غير قابلة للابتلاع
لعلّ أبرز تلكَ المقالات التي شعرتُ بالاختناق الشديد بعد كتابتها، مقالة حملت عنوان "الحربُ قاتلة الخيال"، وقد أوردتُ فيها قصّة عن طفلٍ من قطاع غزّة فقدَ إحساسه برفيقه الخيالي "سبايدر مان" الذي كان يشاركه تفاصيل يومه كافة، ولمّا سأله أحد أقربائه عنه واستفسرَ منه عن سبب عدم الإتيان على ذكره ووصف مغامراته معه، أجابه الطفل: "انقصف".
أذكر أنّني بعد أن كتبتُ مقالتي تلكَ تلبّسني إحساسُ ذلك الطفل الذي قرأتُ عنه ونقلتُ قصته، وتذكّرتُ رفيقتي الخيالية إبان مرحلة الطفولة، التي كنتُ أدلّل عليها في إجابتي الدائمة لعمّتي عندما كانت تسألني: "مين صاحبتك؟"، فأجيبها: "الشنارة" في إشارة إلى طائر الشنار، خلتني أسيرُ في طرقاتِ طفولتي، وفي رأسي صورة شنارة ميّتة ومقصوفة تتناثرُ دماؤها وأشلاؤها من حولي، فازدادَ إحساسي بقسوةِ ما مرّ به ذلك الطفل، وشعرتُ باختناقٍ شديد، وكان هناك في جوفي شعورٌ ما، لم يكن له أن يخرج، لا بالكتابة ولا بكلّ أشكالِ التعبير.
أتذكّر مَقطعاً شعرياً آخر لمحمود درويش يقول فيه: "من يكتب حكايته يرث أرض الحكاية"، وأقول في نفسي: صحيحٌ أنّنا نحن الفلسطينيين، سواء داخل غزّة أو خارجها، نكتبُ عن حربِ الإبادةِ الحالية لنوثّقها ونوثّق من خلالها استراتيجيات الاحتلال في قتلنا وسلب أرضنا، وصحيحٌ أنّنا مع كلّ كتابة نُعيد تنصيبَ أنفسنا ورثةً مستحقّين لأرضنا التي هي ذاتها أرض الحكاية، إلا أنّ كلّ ذلك لا ينفي حقيقة أنّ ما نكتبه عن الحكايةِ وتفاصيلها يخنقنا ويقفُ في أجوافنا كغصّةٍ غير قابلة للابتلاع.
إذ كيف نُصدّق ونحنُ نكتبُ حكاية الإبادة أنّ أكثر من خمسة وثلاثين ألف شهيدٍ رحلوا عنا في شهورٍ قليلة؟ كيفَ نُصدّق أنّ كلّ هؤلاء ذهبوا عنا ولن يعودوا؟ كيفَ نُصدّق كلّ هذا الدمار الذي حدث، وكلّ هذه الأطراف التي بُتِرَتْ، وكلّ هذه الدماء التي انسكبت؟
كيفَ تُنقذنا قوافل الاستعارات والمجازات من الاختناق بتفاصيل الحكاية إذا كان التعبيرُ عنها وكتابتها يورثنا اختناقاً ثانياً فوق اختناقنا، ويجعلنا نغصّ غصّةً مُضاعفة؟
باعتبارنا فلسطينيين، ربّما يجب علينا اليوم ألّا نأخذ بنصيحةِ "درويش"، لربّما يجب علينا ألا نفكّر بتحرير أنفسنا بالكتابة والرواية والاستعارات، لأنّ ذلك لن يحرّرنا، وسيجعلنا سجناء فعليين لغصّاتٍ متكرّرة ولاختناقٍ يُعيدُ نفسه مع كلّ متنٍ جديدٍ نرويه.