أعباءُ الذاكرة ومحاولات النسيان
أوردَ الكاتب، عبد السلام بنعبد العالي، في كتابه "قراءات من أجل النسيان" ومضةً حول قصة "فونيس أو الذاكرة"، وهي قصة كتبها بورخيس، وروى فيها حكاية شاب يُدعى أرينيو فونيس، سقطَ من على ظهرِ حصانٍ غير مروّض، وكانت نتيجة سقطته تلك أنّه أصيب باضطرابٍ في الذاكرة، فقدَ إثره القدرة على النسيان.
ومما ذكره بنعبد العالي من ملاحظاتٍ حول الشاب فونيس، أنّ ذاكرته تلك التي فقدتْ قدرتها على النسيان، تحولّت إلى قدرةٍ جبارة على الإدراك، فأصبحَ بسببها سجين اللحظةِ الحاضرة التي تُكثّف الزمان كلّه فيها، فتجعله يتذكّر فيها كلّ شيء؛ ماضيه وحاضره، وماضي العالم وحاضره كذلك، فبحسب بن عبد العالي، أصبحت ذاكرة فونيس بسبب فقدانِ القدرة على النسيان "ترزح تحت ثقل إدراكه اللانهائي الشامل".
وبحسبه، فإنّ الإدراك اللانهائي الشامل حرمَ فونيس من قدرتِه على التفكير بشكلٍ سليمٍ لأنّه جعل المعلومات جميعها بتفاصيلها الكلية والجزئية والدقيقة والشاملة تدفق في ذاكرته مرّة واحدة، دون أن يمتلك القدرة على الانتقاءِ والاختيارِ والتصنيفِ بينها، ودون أن يتمكن من أخذِ المسافةِ اللازمة منها لاستعادتها في صورتها المنتقاة والمُنقّاة بعناية.
وكأنّ بنعبد العالي يُذكّر في سرده لهذه القصة، بأنّ النسيان هو ضرورة ملازمة لفعلِ التفكير، فلولاه لحصل تدفق لانهائي للمعلومات في الذاكرة بشكلٍ يشلّ حركتها تماماً، ولولاه لانتفتْ قدرة الإنسان على ممارسةِ التفكير وترجمته بالكتابة وغيرها.
(2)
أعتقدُ بأنّ كلّ من سيقرأ رواية "حذاء لكِ"، وهي رواية تحكي قصة مَخبرٍ متخصّص في تحضير عيّنات من أشياءٍ أو آثار يودّ أصحابها أن يُبقوها قيد التذكّر والنسيان معاً؛ أعتقدُ بأنّ كلّ من سيقرأ الرواية سيذهب في تفكيره إلى عينةٍ ما لشيء ما، أو أثرٍ في حياته، يريده أن يبقى قيد التذكّر والنسيان معاً، والمقصود بأنّ العيّنة هي عيّنة للتذكّر والنسيان معاً، أي أنّها عيّنة يلجأ أصحابها إلى تحضيرها لأشياء أو آثار عزيزة عليهم، تخصّهم أو تتعلّق بهم، وتكون في الغالب لأشياء أو آثار مهمة مرّت في حياتهم، وسبّبت وجعاً ما أو تركتْ ندوباً باقية، حيثُ إنّ أصحاب هذه الأشياء والآثار يلجؤون إلى تحضيرِ عيّنة منها لتبقى تُذكّرهم بها لكنّهم في نفسِ الوقت يعزلون عيّنتهم في المخبر الذي يتم تحضيرها فيه ويُبقونها بعيدةً عن أنظارهم، وكأنّهم يريدونها قريبةً وبعيدةً في الوقت ذاته، وكأنّهم يبتغونها موجودةً وفي حيّز العدم في آنٍ واحد.
لن تنسى إلّا كلّ ما لم تعدْ بحاجة إلى تذكّره من أجل نسيانه
وقد ذهبتُ أنا أيضاً في تفكيري في عيّنةٍ ما لشيءٍ أو أثرٍ في حياتي يُسبّب لي وجعاً وألماً دائماً، ويدفعني عند استحضاره إلى التفكير في أنّني أريدُ أن أتذكّره لأنساه، وأريدُ أن أبقيه في حيّز الوجود والعدم في آنٍ واحد، وذهبَ ذهني فوراً لأصواتِ الذين أحبّهم ورحلوا باختلافِ الأسباب، فأصواتُ الذين أحبّهم ورحلوا عنّي بالموت أو الابتعاد هي آثار موجعة جداً، أستحضرها أحياناً وكأنّني أبتغي وجودها وأريدها في حيّز المحيط الذي حولي، وكأنّني أريدُ أن تبقى محفوظة في مكانٍ ما، وأن يبقى احتمالُ استماعي إليها قائماً متى ما أردتُ ذلك، وإنّها لفكرة مريحة حقاً أن توجد الأصوات السحرية للذين رحلوا، والتي يُوجعني ابتعادها في رأسي عاماً بعد عام، في شكلِ عيّنةٍ محفوظة وموجودة، وكأنّها ماردٌ مخفي في قمقمٍ سحريٍ يكفي أن أتمنى الاستماع إليها حتى تخرج إليّ من قلب القمقم، طازجةً وحيةً، تُذكّرني بهم وتوجعني في آن.
(3)
في مرّة من المرّات قال لي رجلٌ أحبّني دون أن أبادله نفس الشعور: "سأنساكِ"، قالها لي مستحضراً طاقة النسيان القصوى في ذاكرته، كنتُ أستمعُ إليه بإنصاتٍ تامّ، وقد نسيتُ كلّ صفات الرأفة في قلبي، كنتُ أمامه امرأة تجرّدت من رأفتها، وحضرتْ في أقصى حالات نرجسيتها وعنجهيتها، كانَت أذناي تستمعان لنواياه ورأسي منشغلاً بالغناء: "بقى عايز تنساني؟"، كانَ هذا المقطع الغنائي لفريد الأطرش يدور في رأسي كلازمةٍ لعينة، يجري فيه بلا توقّف كأنّه يُراهنني بأنّ هذا المسكين الذي يجلس أمامي سيعجزُ عن نسياني، كأنّه يؤكّد لي أنّ طاقةَ النسيان القصوى التي استحضرها في ذاكرته ليستخدمها ضدّي ستنقلبُ ضدّه، وأنّ إرادة النسيان لديه ستستحيل حتماً إلى إرادةِ تذكّر دائم لي ولملامحي ولتفاصيلي.
سألتُ نفسي لحظتها: ما الذي تعنيه إرادة نسياني سوى حضوري في حيّز تذكّره المستمرّ كلعنةٍ أبدية؟ وما الذي تعنيه تلكَ الإرادة سوى أنّه يدور في حلقةٍ مفرغة لنسياني الذي يريده، وتذكّري الذي يلازمه كظلّه كلّما تذكّر إرادة نسياني؟ وكم كنتُ أودّ أن أقول له بلسانِ الغطرسة والتجبّر: لكيْ تنساني عليكَ ألّا تتذكّر إرادة نسياني، فأنتَ لن تنسى إلّا كلّ ما لم تعدْ بحاجة إلى تذكّره من أجل نسيانه.