الحبّ... لعبة مطّاط
إنّ الحب حزام مطاطيّ ينسحب بدرجة معيّنة ثم يرتدّ إلى الأمام مرّة أخرى، وقد ينسحب كثيراً إلى غير اتجاهه المأمول! هذا الانسحاب والارتداد نطلق عليه "لعبة مطّاط"، وتقتضي هذه اللّعبة الكثير من المحاور في بداية الانسحاب وحتّى نهاية الاقتراب، وقد يكون الحبّ هنا انسحاباً من الذات وارتداداً إلى المحبوب رغبة بالاتحاد.
لذلك سنحلّل مسافة أو محاور المطّاط، وكأنّ هذا المطّاط ينسحب ويرتدّ على ورقة تعبير كتابي عن الحبّ من المرحلة الابتدائية من جهة منهجية هذا التعبير؛ ففي كلّ مرّة يقف المطّاط على فقرةٍ ما.
المقدّمة: إضفاء القيمة؛ الحبّ حاجة للفرار من الشعور بالنقص والهرب من الذات، وإذا كان الإنسان راضياً عن ذاته فإنّ الحبّ لا يمكن أن يمسّه، وهذا على الاستحالة، لأنّ الإنسان في تقلبات روحية دائمة تفرضها عليه نوائب الدنيا والأقدار، لذلك لا تصبح ولادة الحبّ ممكنة إلا حين تضفي على شخص ما قيمة تفوق القيمة المضفاة على شخص آخر، أو بالأحرى على كثير من الأشخاص، وعلى وجه أدقّ، قيمتك أنت مقابل قيمة المحبوب.
الإشكالية: التساوي مقابل التفوّق؛ حين تعتبر شخصاً ما مساوياً لك، فكيف يمكنك أن تحبّه؟ وما الذي يدفعك عندها إلى ذلك؟ وأين يكمن ما يحرّض على مثل هذا الشعور الغريب؟ إنّ الحبّ لا يكون ممكناً إلا حين تعزو إلى شخص آخر قيمة أسمى من القيمة التي تعزوها إلى ذاتك، وحين تراه من نواح محدّدة على الأقلّ، شخصية متفوّقة عليك.
التمهيد: مكاسب الأنا أو "الإيغو"؛ مثل حسد المحبوب وشهوة انتزاعه من محيطه والعداء له والغيرة منه، وكلّها نوازع لاواعية وباطنية، وهي تعني تحدّي الأنا للظفر بالمحبوب والشعور بالفوز به، لما فيه من خصال وصفات لها قيمة أعلى ممّا يمتلك المُحبّ على حدّ إدراكه. ولأنّها نوازع لاواعية ومرفوضة عموماً، يتمّ التعبير عنها في الوعي والواقع بصيغة إعجاب بالمحبوب.
الحبّ حاجة للفرار من الشعور بالنقص والهرب من الذات، وإذا كان الإنسان راضياً عن ذاته فإنّ الحبّ لا يمكن أن يمسّه
صلب موضوع: الإرضاء العاطفي والجنسي؛ بعدما انتزع العاشق المعشوق وانتصر بالحصول عليه، تبدأ عوامل الرضى والإشباع العاطفي والجنسي من خلال الانسجام وتوحيد التفضيلات وتآلف المقاربات (التشابه) بينه وبين المحبوب، كما يتمّ فيها إقصاء المفارقات (الاختلاف) أو توليفها بشكل أكثر لطافة ودبلوماسية معه.
القفلة: النفور والقرف؛ بعد تحقيق غاية الإرضاء، يبدو أنّها لا تنجح بما فيه الكفاية في تآلف المقاربات وتوليف المفارقات، لأنّه من المستحيل أن يظلّ الإنسان شبيه الآخر، فهو في تغيّر مستمرّ أولاً، وثانياً إنّ هذه المعادلة تتطلّب جهداً وتوازناً استثنائياً لا يقوى عليه الطرفان لمدّة طويلة، هنا يتبدّى شعور بالقرف والنفور التدريجي نتيجة تقييد شخصية المحبوب جزئياً لأجل المُحبّ، وتلوّح تصدّعات الحبّ في الأفق معلنةً انهياره عمّا قريب، يبدأ هنا الملل والروتين والبرود والإهمال العاطفي والانسحاب الجنسي.
الخاتمة: الانهيار والتخلّي؛ يتمّ فيها تنفيذ التخلّي بالفعل، ويعود العاشقان إلى التمهيد، فيظهر من جديد الحسد والانتزاع والعداء والغيرة، لأنّه تمّ فقدان الحبيب، ولا بدّ من إعادة المناورة عليه مرّة أخرى للظفر به، وكثيراً ما تولّد هذه المناورات المزيد من المشاعر السلبية وتزيد الأمر سوءا حتى يتحوّل المحبّان إلى أعداء بالفعل، وتظهر هذه المشاعر الباطنية إلى العلن لكليهما فاضحةً إيّاهما أمام نفسيهما وأمام محيطهما.
فتح أفق جديد: تحقيق الذات الأصيلة "الاتحاد"؛ يأخذ المحبّان وقتهما بالانتصار على بعضهما، فكلّ يحاول أن يأخذ قيمة الآخر التي كلّله المُحبّ بها، ويبدآن بسحب هذه القيمة وإعطائها لنفسهما، ومن ثمّ العمل بها جملةً وتفصيلاً من جهة ميّزات الآخر التي تميّز بها، فيحاول المُحبّ تقمّصها في ذاته، وهنا تنشأ عُقدة جديدة في المطّاط؛ إذا انتصر عليه المُحبّ وصار هو المحبوب، فلماذا عليه أن يحبّه من جديد ويعود إليه إذا تساوى في القيمة؟ وهل عليه أن يبحث عن محبوبٍ آخر؟ أو يستطيع المُحبّ هنا أن يتخلّص من مكاسب الأنا ومن غاية الإرضاء بعد الانتصار على المحبوب، وأن يتخلّص نهائياً من نطاق الأنانية ليتّحد مع ذاته ويحبّها كما هي، والتي هي ما تمكّنه من محبة الآخر "المحبوب" كما هو دون تآلف المقاربات وتوليف المفارقات؛ حبّ غير مشروط للذات والآخر. وقد تُكرّر هذه العملية مع عدّة شركاء "الرسالة الكونية" حتّى يستطيع الإنسان تدمير أناه "الإيغو" ليفتح قلبه على الآخر.