التيه الفلسطيني
"قبل بضع سنوات، انتشرت في حانات تل أبيب نكتة تقول: اليهودي الإسرائيلي المتفائل يتعلّم العربية، واليهودي الإسرائيلي المتشائم يتعلّم الإنكليزية، أما اليهودي الإسرائيلي الواقعي فيتعلم... السباحة".
بهذه النكتة البالغة التعبير، قدّم الكاتب المناصر لقضايا الجنوب والصحافي فاوستو غيوديتشي (Fausto Giudice) ترجمته لتحقيق طويل، كانت قد نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية في أوائل سبتمبر/ أيلول الجاري، عن موجات متنامية من الهجرة الجماعية اليهودية من فلسطين المحتلة إلى مناطق في أوروبا، على طريقة "لينجُ من يستطيع"، حسب وصف الصحفي الإيطالي هيلو غلايزر.
بمعنى آخر، إِن سعينا الى ترجمة النكتة أعلاه، فإنّه في إسرائيل الحالية يتكاثر أولئك الذين يتعلّمون الإنكليزية، سعياً للهجرة النهائية أو المرحلية، تخوّفاً من أن يضطروا لكابوس تعلّم السباحة. فالتشاؤم تجاه مستقبل الكيان المصطنع يسود الجمهور الإسرائيلي، خصوصاً بعد تزايد نفوذ قطعان المستوطنين إثر الانقلاب القضائي، واشتداد عود المقاومة الفلسطينية التي بدأت تنتشر حتى بين فلسطينيي الداخل المحتل.
يقول غلايزر في تحقيقه إنّ "آلاف الإسرائيليين من جميع الأعمار والظروف الاجتماعية والاقتصادية يندفعون لإيجاد بديل للحياة في الدولة اليهودية"، ويضيف أنّه "في أعقاب الانقلاب القضائي (الذي قامت به حكومة نتنياهو ولاقى احتجاجاً مستمراً في الشارع الإسرائيلي)، لم تعد مناقشات الإسرائيليين حول الاستقرار في الخارج مقتصرة على مجموعات وسائل التواصل الاجتماعي (..) ففي وادٍ أخضر في شمال غرب إيطاليا، بدأت أفكار الهجرة الجماعية تتشكل على أرض الواقع، كما تتشكّل مبادرات مماثلة في أماكن أخرى".
إحدى هذه المبادرات كانت منظمة "بروجيتو بايتا"، التي يتناولها التحقيق، والتي تكوّنت أخيراً، ومهمتها تسهيل هجرة الإسرائيليين الراغبين إلى منطقة تسمّى وادي فالسيسيا في مقاطعة فرشيلي الإيطالية، والتي تعاني، شأن العديد من مناطق الريف الأوروبي، من شيخوخة السكان وهجرة الشباب.
قاد هذه المبادرة هوغو لوزاتي (61 عاماً)، وهو إسرائيلي ولد ونشأ في إيطاليا وذهب ليعيش في فلسطين المحتلة منذ شبابه. فقد اكتشف الرجل عندما اشترى بثمن بخس منزلاً في فالسيسيا لقضاء إجازة هناك، حال تلك المنطقة الفقيرة والمهجورة. فما كان منه إلا أن وجّه دعوة عبر "فيسبوك" لمعارفه للانضمام إليه.
يقول لوزاتي "في ذلك الوقت، لم أكن أفكر في عمل تجاري، أردت أن أقدّم بديلاً للإسرائيليين الذين سئموا من الاكتظاظ السكاني، لكن اتضح أنني جعلت من مهمتي مساعدة الإسرائيليين الطيبين على الهجرة، لأنّ الأمور في إسرائيل تسوء".
التشاؤم تجاه مستقبل الكيان المصطنع يسود الجمهور الإسرائيلي، خصوصاً بعد تزايد نفوذ قطعان المستوطنين إثر الانقلاب القضائي، واشتداد عود المقاومة الفلسطينية
ويقصد الرجل بالإسرائيليين الطيبين أولئك الذين يعارضون الانقلاب القضائي الذي يقوده رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واليمين الاستيطاني، والذين يؤمنون بأنّ إسرائيل "الديمقراطية" باتت مهدّدة بحكم ديكتاتوري. ولقد حدّد لوزاتي تاريخ الانقلاب القضائي كمنعطف هام، زاد فيه الإقبال على المشروع من الإسرائيليين بشكل ملحوظ.
يقول بحزن "لقد نشأت مع أساطير (الكتيبة اليهودية) ـ في جيش الاحتلال البريطاني قبل النكبة ـ وإنجازات الكيبوتسات ومعجزة إنشاء دولة إسرائيل وقيم التضامن فيها. لكن كل هذا يختفي".
عندما أدرك لوزاتي أنّه كان يقضي معظم وقته في مساعدة الإسرائيليين الذين يخطّطون للاستقرار في المنطقة، عقد صفقة مع وكيل عقارات إيطالي محلّي، يحصل بموجبها على عمولة عن كلّ صفقة يتم إبرامها.
هكذا، أخذ الإسرائيليون الراغبون بالاستقرار في المكان يرسلون له سيرهم الذاتية، وهو يقوم بالتواصل بينهم وبين أماكن عمل محتملة. كما زوّد الجميع بمعلومات عن تأشيرات الإقامة وتنظيم دورات للغة الإيطالية. ولإضفاء الطابع الرسمي على جميع أنشطته، أنشأ جمعية Progetto Baita.
"في الواقع، الوادي يحتاج إلى دماء جديدة. اليوم، هناك أقل من 10.000 نسمة؛ وهرمه السكاني يميل بشدّة الى الشيخوخة. وتشير التقديرات إلى أنّ هناك حوالي 1000 منزل تمّ التخلّي عنها مع انتقال الناس من المناطق الريفية إلى المدن"، كما جاء في التحقيق.
يستعرض التحقيق عينات كثيرة من المهاجرين، منهم لافي سيغال، وهو يملك شركة سياحية في الجليل المحتل، قدم منذ شهرين فقط مع زوجته إلى الوادي. كتب الرجل على صفحته في "فيسبوك": "المزيد والمزيد من الإسرائيليين يصلون إلى هذا الوادي الجبلي لبداية جديدة، في الوقت الذي تقل فيه مساحة الديمقراطية في بلادهم (..) هناك ستينيون فقدوا شعرهم مثلي، وهناك عائلات مع عربات أطفالها، هناك أساتذة، مدرب كرة سلة، ومزيّن للكلاب، وهناك عائلات مع أولاد في سن المدرسة (..) البعض يقولون إنهم يقومون فقط بالاستكشاف، وما زالوا يخجلون من الاعتراف بأنهم يفكرون جديًا في هذا الخيار. ولكن هناك آخرين كثر مصمّمون ومتحمّسون، يريدون معرفة كيفية الحصول على تصريح إقامة، وكلفة المنزل، وكيفية فتح حساب مصرفي وتحويل أموال معاشاتهم التقاعدية بينما لا يزال ذلك ممكناً"، ويضيف "تحت كلّ هذا، طبقة من الألم، ألم الإسرائيليين الطيبين الذين ظنّوا أنّه باستطاعتهم بعد ألفي عام من التيه أن يرتاحوا أخيراً، لكنهم مضطرون الآن، ومن جديد، لحمل عصا الترحال".
يقلّل الرجل الستيني في حديثه مع المراسل من أهمية انتقاله "لا نتحدث عن اقتلاع دائم، على الرغم من أنّ ذلك قد يحدث إذا أصبحت الحياة في إسرائيل لا تطاق. في الوقت الحالي، نحن نبحث عن مكان يمكننا من خلاله تقسيم وقتنا بين إسرائيل ومشاركتنا في الاحتجاجات (..) والخارج".
لكن غيره لا يتحدّث عن إقامة مؤقتة أو موزعة. فقد قامت عائلتان إسرائيليتان أخريان بشراء منازل في فالسيسيا، وهناك اثنتا عشرة عائلة أخرى في مراحل مختلفة من تنظيم انتقالها. هؤلاء هم "الروّاد" فقط: فقد سجل حوالي 800 شخص كأعضاء في منظمة بروجيتو بايتا غير الربحية، وقد قام وفدان بزيارة المنطقة بالفعل.
وسيتوّجه وفد ثالث مكوّن من 35 شخصًا إلى هناك في الأسابيع المقبلة، ونظرًا للطلب، ستذهب مجموعة رابعة إلى هناك في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل. لافت أيضاً طابع الهجرة المهنية لبعض تلك المبادرات، كهجرة الأطباء (ثلاثة آلاف ونيف من أصل ثمانية آلاف طبيب في الكيان سجلوا أنفسهم في واحدة على الأقل من تلك المبادرات)، أو المهندسين أو قطاع التكنولوجيا الدقيقة، والأخير تنظمه مبادرة في الولايات المتحدة الأميركية تحت عنوان ذي مغزى هو "سفينة نوح".
مجتمعات الاحتلال "فقاعية"، أي أنّ المحتل يعيش في فقاعته الخاصة التي تعزله حياتياً وشعورياً وأخلاقياً عن السكان الأصليين وما يكابدونه
التحقيق طويل جداً ووافٍ، وقد قابل الصحافي عيّنات كثيرة من المهاجرين. أمّا المثير للانتباه، فهو ما قاله الصحافي عن أنّ بعض من قابلهم أصابهم الذعر حين علموا أنّ هذا التحقيق سينشر في صحيفة هآرتس الإسرائيلية. أمّا لماذا؟ فقد قالوا إنهم خائفون أنّه بعد قراءته، سيقوم مسؤولو الخزينة أو المصارف بتشديد القيود على تحويلات الأموال إلى خارج إسرائيل.
لكن، لدى لوزاتي نفسه تفسير آخر لخوف المهاجرين. يقول إنّه عكس الإسرائيليين، عندما يسعى مواطنو أيّ بلد إلى مستقبل أفضل في مكان آخر، لا يشعرون بأنهم يرتكبون خطأ ما. لكن الثقافة الإسرائيلية تجعل من يريد الهجرة خائفاً من وصفه بـ"يريدا" أي "هاجر للبلاد"، ويضيف "مهاجرونا خائفون، لا يريدون أن ينكشف أمرهم، حتى لا يكتشف أصدقاؤهم أنهم يفكرون في الهجرة".
هناك "خجل"، وربّما خوف من الانسحاب من المشروع الإسرائيلي "المنحرف" عمّا كان قد سُوّق له. حجّة الانقلاب القضائي لا تلغي اعتراف الهاربين بأنّ العيش المكلف في إسرائيل، اقتصادياً، أمنياً، وحتى أخلاقياً، لم يعد من الممكن احتماله لأشخاص يظنون، عكس الواقع، أنهم يعيشون في بلد "طبيعي".
مبادرة "بايتا" ليست الوحيدة، مبادرات أخرى كثيرة تحاول أن تنفي عن نفسها وصف الهجرة، لكن تفاصيلها لا تقود إلا لاستنتاج واحد: الرغبة المتزايدة بالخروج من إسرائيل نهائياً. بعض تلك المبادرات في كندا والبرتغال وقبرص واليونان، وحتى زنجبار، التي عرضت، حسب إحدى المبادرات، أرضاً واسعة شاطئية، مزوّدة ببنى تحتية كاملة لاستقرار هؤلاء، إلا أنّهم رفضوا "لأننا نفضّل بلداً ديمقراطياً وليس من العالم الثالث".
التيه الحقيقي اليوم هو للفلسطينيين، الذين برغم وجود وطنهم، إلا أنهم لا يستطيعون الانتماء لجنسيته أو العودة إليه
الديمقراطية إذاً؟ يسأل الصحفي: "إن كنتم تهربون من بلاد تتحوّل إلى الفاشية، فكيف تختارون إيطاليا التي تحكمها اليوم رئيسة حكومة يمينية متطرفة متل جورجيا ميلوني؟". أجاب لوزاتي وزوجته إجابات طويلة من نوع أنّ إيطاليا بلد مؤسسات راسخة، وأنّ هناك دستوراً إلخ... لكن عندما ألحّ الصحفي بالسؤال، قالت الزوجة إنّ الأمر لن يهمهم "فلن نتورط بمشاعر وطنية هنا"! أي أنهم سيعيشون في فقاعة، تماماً كما يفعلون في فلسطين المحتلة. فقد كان لافتاً في التحقيق الطويل جداً (سبعة آلاف كلمة ونيّف) أنّ أحداً منهم لم يأت على ذكر كلمة فلسطيني، وكأنّ لا وجود لهؤلاء أو لبلادهم. فمجتمعات الاحتلال "فقاعية"، أي أنّ المحتل يعيش في فقاعته الخاصة التي تعزله حياتياً وشعورياً وأخلاقياً عن السكان الأصليين وما يكابدونه، فيستطيع أن يمضي هنيئاً (لو لم تصادفه مقاومة) بخرافات وجود بات يعتقد أنه عادي ومشروع.
لذا، حين تصطدم فقاعتهم بإبرة الواقع، فهي بكلّ بساطة تتبدّد. فيتواجه، حينها، المحتل مع عالم وجوده الحقيقي. يرى ضحاياه كما وجهه القبيح واضحاً كما في مرآة. عندها، إن كانت هناك من بقية عقل أو أخلاق، سيعود من حيث أتى. وهذا لا يسمّى تيهاً ولا حمل عصا الترحال، إنّه، لهؤلاء القادمين إلى فلسطين المحتلة، محتفظين بجوازات سفر بلدانهم الأصلية، مجرّد عودة. وهي عودة، عكس حق العودة الفلسطيني، متاحة.
في تغريدة لها أخيراً، تقول الشابة الفلسطينية ريما حسن، وهي حقوقية بارعة في التحدّث إلى الرأي العام العالمي بلغته "إنّ توزع 58 مخيماً للاجئين الفلسطينيين بين لبنان وسورية والأردن وفلسطين نفسها يرمز إلى ما هو أكثر بكثير من منفانا القسري وحالتنا كمواطنين من دون دولة، إنه يرمز إلى التيه الجماعي (..) ومصادرة حقنا بالعودة".
لم يعد التيه صفة اليهودي، بات مجرد كليشيه من الماضي. التيه الحقيقي اليوم هو للفلسطينيين، الذين برغم وجود وطنهم، إلا أنهم لا يستطيعون الانتماء لجنسيته أو العودة إليه.