التجربة الجامايكية (3): الحفلة
بعد نصف ساعة أو أكثر قلیلاً، انتهى الطریق الجبلي وبدأ طریق مستو مهترئ تحاذيه قناة كبیرة للصرف الصحي نصف ممتلئة تجري على طول الشارع.
هنا، قرر مستر ونستون أن یسیر بالسیارة ببطء لیتیح لي أن استمتع برائحة المجاري مخلوطةً برائحة صاروخه القاتلة حتى وصلنا إلى مكان الحفلة الذي كان عبارة عن ساحة بحجم ملعب كرة السلة بجانب القناة وكانت على جانب الساحة الآخر تلة ملیئة بالأشجار وبعض الأكواخ الخشبیة المتناثرة على سفحها، قطعنا الجسر الخشبي المصنوع من صنادیق الخضار فوق القناة لنصل إلى الساحة التي كان في منتصفها عدد من السماعات العملاقة تصدر موسیقى صاخبة مزعجة كنت قد سمعتها من قبل أن نركن السیارة بوقت طویل.
لاحظت أن كل الموجودين في الحفلة كانوا من الشباب فقط، أعمارهم متقاربة باستثناء القلیل من الرجال الأكبر سناً، كان الكل یصرخ في أذن الآخر لكي یسمعه في وجود تلك الموسیقى المزعجة، طبعاً بما أنني الأجنبي الوحید ذو البشرة الواضحة بین هذا الجمع، كانت الأنظار كلها موجهة إلي مما زاد من توتري وعدم ارتیاحي.
تلفتّ حولي لأستكشف المكان، كان على طرف الساحة بسطة طعام خلفها منقلان كبیران للشواء تفوح منهما رائحة اللحم المشوي لتختلط مع رائحة قناة الصرف ومع رائحة الحشیش المنتشرة في كل مكان بالطبع، لتعطیك عزیزي القارئ كوكتیلاً مدمراً من الروائح أنت محظوظ أنك لا تستطیع شمه وأنت تقرأ هذه السطور، لأنك لو شممته ستشعر بالغثیان والجوع والسعادة في نفس الوقت!
غلب شعور الجوع على شعوري السعادة والغثیان لأنني لم آكل منذ أكثر من خمس عشرة ساعة، وكنت قد صبّرت معدتي بالإلحاح علیها أن تنتظر الطعام الجامایكي البلدي الذي لا بد أن یكون لذیذاً وصحیاً بدلاً من أكل المطارات الباهت، فذهبت إلى البسطة وطلبت نصف دجاجة مشویة بصلصلة الجیرك الحارة وبعض الأرز، نظر إلي الطباخ الذي كان صامتاً بشكل مریب نظرة مخیفة أشعرتني بالرعب حقیقة، وعندما سألته عن ثمن الوجبة لم یجب بل ظل صامتاً محدقاً بي بعینیه الواسعتین المخیفتین!
غلب شعور الجوع على شعوري السعادة والغثیان لأنني لم آكل منذ أكثر من خمسة عشر ساعة، وكنت قد صبّرت معدتي بالإلحاح علیها أن تنتظر الطعام الجامایكي البلدي
تدخل أحد الشباب قاطعاً فترة الصمت غیر المریح بیننا وقال لي إن الحساب اثنا عشر دولاراً، طبعاً لم أعترض على النصب المبین إذ كنت مستعداً لأدفع أي مبلغ مقابل أن أهرب من نظراته المرعبة. وقفت إلى جانب مستر ونستون وسألته وأنا ألتهم فخذ الدجاجة ما مناسبة هذه الحفلة؟ أجابني بابتسامة فرحة أن البلدة تحتفل بخروج أحد شبابها من السجن بعدما أمضى عقوبته، وأغلب الحضور هم زملاؤه في العصابة الأوفیاء الذین أتى بعضهم من أماكن بعیدة حرصاً على أداء الواجب!
"أصیلون واالله".. غمغمت وانا ألتهم ما تبقى من فخذ الدجاجة الذي أنساني طعمه اللذیذ المصیبة التي أنا فیها لوهلة من الزمن، وتساءلت في نفسي ما هي طقوس مناسبة كهذه؟ هل یعدون لها طعاماً مخصصاُ أو مشروباُ معینا كالقرفة أو الكركدیه مثلاً؟ هل هناك هدیة معینة أو نقوط؟ وهل كل ما زادت مدة المحكومیة یزید مبلغ النقوط؟!
منعت نفسي من المزید من التساؤلات السخيفة وانتظرت أن ینهي مستر ونستون كلامه مع صدیقه ثم سألته: "هو المحروس لماذا دخل السجن أصلاً؟" فأجابني أنه مجرد سطو مسلح وشروع بالقتل، أمضى ثلاث سنوات في السجن ثم خرج لحسن سلوكه.
"مبروك"، قلت له بصوت خافت وأنا أمضغ باقي فخذ الدجاجة. غيّر مستر ونستون مجرى الحدیث وسألني عن الدجاجة إن أعجبتني، قلت له إنها حقاً لذیذة وأنني أفكر في التهام نصف آخر على الرغم من كوكتیل الروائح الذي بدأت أعتاد علیه. فرد علي قائلاً طبعاً إنها لذیذة لأن صدیقه جون الذي كان طباخ السجن هو الذي شواها، وأخذ یشرح لي كیف أن طبیخ جون اللذیذ كان السبب في تحمله سنوات السجن الصعبة، ثم توقف مستر ونستون عن الكلام بشكل مفاجئ كأنه تذكر شیئاً، ثم أخرج هاتفه ووضعه بین كتفه وأذنه، وأخذ یتكلم بصوت منخفض، ثم أخرج ورقة بیضاء صغیرة، ونبتة خضراء أخذ یقطعها ویضعها في الورقة، وبدأ بلف الصاروخ الجدید وهو یمشي ببطء مبتعداً عني.
(يتبع)