التجربة الجامايكية (7): الهروب

20 مارس 2023
+ الخط -

شرّف ونستون أفندي في تمام الساعة الثانية ليلاً، بعدما لطعني ساعتین كاملتین في كوخه العامر مع الثلاثي المرح، الذي لا شك في أن كلاً منهم قد دخّن مزرعة حشیش كاملة منذ قدومهم إلى جامایكا قبل أسبوع. أتاني الأخ مبتسماً یضحك وقد بدا أقل سناً وبشرة وجهه أكثر نضارةً ونعومة، ولولا حنقي الشدید منه لكنت سألته عن نوع الصابون الذي یستعمله لأنني أرید بشرة رائعة كبشرته، أسرعت نحوه وأمسكت بتلابیبه وقلت له بلهجة صارمة أن یكف عن المماطلة وأنني أرید الذهاب إلى الفندق حاًلا لأنني منهك جداً، وإن كان لا یستطیع أن یوصلني فلیتصل بتاكسي لیأخذني، قال لي إنه یجب أن یظل هنا لأنه ینتظر ضیوفاً مهمین، وأنّ للأسف سائقي التكاسي لا یجرؤون على القدوم إلى هذه المنطقة، لكنه سیطلب من أحد الشباب أن یوصلني بسیارته طیبة الذكر، وافقت على مضض مدركاً أنه لیس لدي أي خیار آخر.

نزلت التلة بعد وداع الثلاثي المرح مشیاً وراء ونستون إلى أن وصلنا إلى مجموعة من الشباب، وبعد نقاش قصیر تقدم اثنان منهما وأخذا المفاتیح من ونستون الذي قال لي أن أتبعهما، ثم صافحني ونستون وشكرني على الحذاء مرة أخرى، وطلب مني أن نلتقي مجدداً في الأیام القادمة، قلت له أكید طبعاً وشكرته على الوقت الرائع، ومشینا إلى السیارة وجلست في المقعد الأمامي ذي الباب البني، وجلس أحد الشابین في مقعد السائق وركب الشاب الآخر خلفي.

سارت بنا "اللادا" في نفس الطریق بمحاذاة القناة، ثم انحدرت نزولاً باتجاه البحر في نفس الشارع الجبلي الذي زادت كلابه في هذا الوقت، ما إن رأیت البحر، حتى تحسن مزاجي قليلاً لأنني أدركت أنّ فندقي یقع على شارع الكورنیش المحاذي للبحر، قدرت أنّ المسافة إلى فندقي حوالي خمسة كیلومترات یمیناً من تقاطع الشارع الجبلي مع الكورنیش الذي وصلناه، لكنني لم أستطع التأكد لأن هاتفي خذلني وانتهت بطاریته، وبدل أن یتجه صدیق مستر ونستون الصامت إلى الیمین باتجاه الفندق، سار باتجاه الیسار، أخبرته مباشرة أنّ الفندق في الاتجاه الآخر، لكنه قال لي إن هناك "بیزنس" یجب أن یقضیه أولاً ثم سیوصلني، رددت بأنني تعبان جداً وسأكون ممنوناً لو یوصلني أولاً ثم لیذهب إلى "بزنسه"، رد باقتضاب بأنه لا یمكن ذلك.

غصت في مقعدي وقد أنهكني التعب والتفكیر، خصوصاً وأنا أتخیل أننا سنذهب إلى مكان مهجور لإتمام صفقة تسلیم مخدرات أو أسلحة كما في الأفلام، فعزمت على أن أخرج من السیارة في أقرب فرصة، لكيلا نبتعد أكثر عن الفندق، والأهم من ذلك حتى لا أشهد تلك الصفقة التي كما تخیلت، ربما تنتهي بكمین وإطلاق نار ومطاردات في معركة عصابات لا ناقة لي بها ولا جمل ولا كلب حتى!

استفقت من فلم الآكشن المتخیل على أصوات موسیقى بدأت تعلو تدریجیاً مع اكتظاظ الشارع بالناس الذین یبدو أنهم خرجوا للتو من حفلة موقفین حركة السیر بالاتجاهین، خفف سائقي الصامت من سرعة السیارة تدریجیاً حتى توقفت خلف مجموعة من الشباب كانوا یرقصون ویغنون في الشارع. قلت في نفسي "ناو أور نیفیر"، وأمسكت بمقبض الباب الداخلي، ونظرت إلى السائق وقلت له شكراً، ثم سحبت المقبض ودفعت الباب بكتفي بكل قوة ونزلت من السیارة بسرعة خاطفة وانسللت بین جموع المحتفلین في الشارع متجاهلاً صیحات السائق ورفیقه ورائي، ومشیت مسرعاً بین الناس حتى وصلنا إلى منطقة تجاریة فیها العدید من المطاعم والحانات ودخلت في أول باب وصلت إلیه لأجد نفسي في حانة كبیرة یبدو أنها سیاحیة حیث أغلب الناس فیها كانوا من الأجانب.

جلست على مقعد أمام البار، وطلبت زجاجة مياه كبيرة من النادل ثم أعطيته بقشيشاً احتفالاً بهروبي من أصدقاء ونستون وطلبت منه أن یشحن لي هاتفي، فوافق على مضض ثم ذهب لیقضي طلباً من أحد الزبائن.

تلفت حولي أنظر إلى مرتادي الحانة، كان هناك عدة رجال یبدو أنهم من المتقاعدین الأميركان، وشلة من الشباب الإنكليز مع صدیقاتهم، وبعض سكان المنطقة فیما یبدو. لم یلفت انتباهي سوى رجل أربعیني قصیر وبدین، كان یلبس سلسلة ضخمة من الذهب حول عنقه وعلى ذقنه سكسوكة غريبة. كان الرجل جالساً على أحد الكراسي في منتصف الحانة، وحوله ثلاثة من الصواریخ، البشریة هذه المرة، یتمایلن ویتراقصن حوله بضجر واضح، بینما یلعب هو في هاتفه غیر مكترث لهن، لعنت في سري الفلوس القادرة على كل شيء في هذا الزمن الرديء، ولعنت الزهر الذي یلعب مع هذه الأشكال ولا یرید أن یلعب مع أشكالي، واستدرت في مقعدي منتظراً شحن الهاتف.

كان النادل مشغولاً بإعداد بعض المشاریب، وبینما أنا أنظر إلیه منتظراً، سمعت خلفي صوتاً أنثویاً رقیقا یسألني: "هل أستطیع أن أجلس هنا؟". استدرت باتجاه الصوت لأرى وجهاً ملائكیاً ساحراً ینظر إلي بابتسامة آنستني بعد كل ما حدث لي طوال الیوم!

(يتبع)

أنس أبو زينة
أنس أبو زينة
مهندس برمجيات وباحث في مجال الذكاء الاصطناعي، مقيم في لندن وأنتمي، ثقافةً وهويةً ولغةً، إلى الوطن العربي. مهتم بالسفر والاطلاع على حضارات العالم المتنوّعة وعادات شعوبها، سافرت الى إحدى وثمانين دولة حتى اﻵن، وأكتب عن المشاهد والقصص والمغامرات التي عشتها.