البوصلة.. في الطريق إلى مربّع أمني للحب
"أحياناً يقود التشابه إلى الحب، أحياناً يقود التنافر إليه، الشخصيات الحنونة تحبّ أشباهها، وتلك التي تفقد توازنها كثيراً أثناء الحياة تحبّ أضدادها دائماً". (محمد حسن علوان).
في الحبّ ليس هنالك نجم تهتدي به إلاّ بعد فهم السياق النفسي والاجتماعي الذي يسبح فيه كوكب العشق. ولتعرف مسارك في زمن حداثة الحبّ فلا بدّ من بوصلة، فدونها تغدو تائهاً تتقاذفك الريح يمنةً ويسرةً، فتكون أضحوكة أمام المجتمع الرومنطيقي "المودرن" أو المتمدّن.
يجب التمييز جيداً بين مؤشّر البوصلة وبين المنطقة التي نقصدها؛ فالمؤشّر يدلنا على المسار معرفياً، في حين المنطقة تدلنا على ما نفعله هنالك سلوكياً، إذ من غير المجدي معرفة مؤشّر بوصلة "باريس" دون أن نقصدها؛ فالبوصلة والمنطقة ثنائيتان لا تنفصلان، فواحدة تنفذ على الأخرى، بحيث تكون البوصلة دالاً والمنطقة مدلولاً، وما يحدث فيهما هو الإشارة العاطفية التي تُهيئنا وتمكّننا من جدوى الترقّي والاستمرار والتأييد، أو من عدمه في التوّقف والقطع والاعتراض في العلاقة.
إنّ البوصلة التي نستعرضها تضمن التوافق النسقي (الشبه) مع الشريك، الشبه الذي يكون نسخة عن ذاتك "كوبي بيست"، بحيث تشعر بأنّ الحبّ هو أنت وأنت هو، ما يمكّنك من استكمال حياتك مع نفسك في إطار المودة والرحمة والعطف على الذات، فتكونا "باست كوبل". إنّ الاختلاف لا يعني الحبّ، إنّه ومضة من الإعجاب حيث يمكن أن يكون هناك القليل من الإعجاب، حيث لا يوجد شبه، ثم يتضاءل ليتحوّل إلى خلاف كبير، مؤدياً إلى تهشيم العلاقة، وكأنّها كتلة من "فلين".
إنّ البوصلة تتكوّن من أربع جهات ومناطق متوافقة ومنسجمة مع شريكك "كوبي بيست للباست"، فقد قيل "وجهان متشابهان، لا يسبّب أيّ منهما وحده الضحك، يُستخدم الضحك عندما يكونان معًا، من خلال تشابههما".
جهة الشمال؛ الثوابت والمسلّمات مثل منظومة القيم، منظومة الدفاع عن قضايا نبيلة، نطاق الرؤية والرسالة في الحياة، لواء تيار فلسفي في السلوك الشخصي، تقييم نقاط القوة والضعف، القدرة على التسامح والغفران وترك العادات السيئة؛ الطيبة، العدل، الالتزام، المسؤولية. هذه الجهة تقود الشريكين إلى منطقة الراحة التي تركّز على خماسية الإنسان؛ الروح، العقل، العاطفة، السلوك، الجسد، مؤديةً إشباعاً معنوياً ومادياً لهذه العناصر، ما يمنح إحساساً كاملاً بالأمان والتحكّم والثقة بين الشريكين.
يركز الحبّ اليوم في زمن الحداثة على جزئية من منطقة الراحة وهي الجسد، فيشبعها عن طريق الاستهلاك الجنسي السريع
جهة الشرق؛ القواعد المعرفية التي تنظّم الحياة مثل المبادئ الضابطة لسير عجلة حياتهما على حدة أو حياة كلّ منهما، وأيّ اختلال أو تباين فيها يؤدي إلى عرقلة سير عجلة العلاقة بين الشريكين. هذه الجهة تقود إلى منطقة الخوف، إذ دائماً ما يبحث الشريكين عن رأي الغير في تقييم المبادئ، وفي حال الإخلال فيها يحاولون إيجاد أعذار، تمنح هذه المنطقة شعوراً كبيراً بفقدان الثقة والترقّب والحذر والمساءلة واللوم.
جهة الغرب؛ توافق أنشطة وروتين الحياة مثل المهارات والمهمّات والهوايات والتفضيلات، حيث تمكّنهم من المشاركة والاستمتاع والتجديد. تقود هذه الجهة إلى منطقة التعلّم حيث تلهمهم طرقاً جديدة في فعل الأشياء معاً، كما تمكّنهم من التعامل مع التحديات والمشكلات، وإيجاد حلول سريعة للأمور العالقة.
جهة الجنوب؛ توافق وانسجام استراتيجي (بعيد المدى) على صعيد الأهداف الشخصية أو أهداف العلاقة بالنسبة لجوانب الحياة؛ الإيماني، الأكاديمي، المهني، المالي، الأسري، الترفيهي، النفسي، الجسدي، الثقافي، الاجتماعي، العاطفي. تقود هذه الجهة إلى منطقة النمو بحيث تكون حياة الشريكين متشابكة كقعدة بحرية تمكّنهما من معايشة أحلامهما، واكتشاف حوافزهما، وتحقيق أهدافهما، والشعور بالإنجاز والرضى والسرور. في هذه المنطقة تحديداً تتحسّن جودة حياة الشريكين كما يجدان غاية من العلاقة لاستمرارية ذاتها بذاتها، إذ إنّ العلاقة أصبحت رهناً شرعياً لعقدة بحرية متينة، وبشكل أدقّ رهناً لذاتين منعقدتين متجدّلتين بعضهما ببعض، مشكّلتين لفيفة شَعر أفروديت آلهة الحبّ والجمال، وشِعر روميو لجولييت أو عنترة لعبلة.
أمّا عن ديناميكية الحراك العاطفي إلى الجهات وداخل المناطق تلك، فتحدّد ذلك أولية اتجاه الشريكين في السفر؛ فإذا كانا شغوفين متوافقين يقصدانها جميعها كحتمية عاطفية تاريخية، وإذا كانا غير ذلك لأيّ سبب كان، فيقصدان بعضاً منها، ولكن لن تكون العلاقة حينئذ شراكة في العقد والارتباط بل ستكون حبّاً فقط! فالشراكة كما قال الكاتب إبراهيم نصر الله "نمشي في الطريق ولحمنا، يختار منّا من يريد، ويقول للأزهار كوني في الحديد، ويُزوِّج النار العنيدة للشّجر المتين، لا شيء فيها (الشراكة) سوى غياب حضورنا، ومرورنا في صخرة، وصعودنا في المنحدر".
تجدر الإشارة إلى أنّ الحبّ اليوم في زمن الحداثة يركّز على جزئية من منطقة الراحة وهي الجسد، فيشبعها عن طريق الاستهلاك الجنسي السريع المغناطيسي، ما يعطّل توزّع المغناطيس على البوصلة كرحلة متكاملة في مسار شراكة، فهذه الأخيرة تحافظ على السمعة والسعة والانحناء على علاقة مثالية، مثل الوقت والحركة والسرعة، أو الحجم والكتلة والكثافة، في حين أن الاستهلاك السريع ذاك يحافظ على التعدّد والتمدّد والاستبدال والتقويض أحياناً.
إنّ المربّع الأمني الذي فرضته جهات البوصلة على المناطق تلك حل وسط يحافظ على المشاعر المقدّسة بين الشريكين وعلى استمرارية العلاقة، بحيث تمنع دخول قيم الحب الرأسمالي أو تلك القيم الاجتماعية المتزمّتة إلى العلاقة، فنحن لا يمكننا التقدّم نحو زوبعة المجهول، ولا يمكننا أيضاً العودة إلى الوراء، لذلك جاء هذا الطوق الأمني الآمن ليسمح لنا فقط بالحراك العاطفي داخل النظام الرومنطيقي "المودرن".