الإنسان العربي لا يعيش لنفسه بل للمجتمع
ذكرت السير أنه قبيل معركة بدر بين المسلمين وقريش (المشركين)، سمع عمر بن هشام، المعروف عند المسلمين بلقب "أبو جهل"، أن أمية بن خلف لن يذهب للمعركة، فجاءه يوبخه ويظهر جبنه مستفزاً إياه، فقال "تجمر يا أبا علي"، أي قم بالزينة مثل النساء لأنك جبان لا تحسن القتال ولا تجيد الطعان، فكانت ضربة له، أثارت فيه حماسة وحنقاً جعلاه يشارك في الخروج رغم كراهته وخوفه من ذلك، وكذا قال أبو جهل قبيل المعركة بيوم أو يومين لعتبة بن ربيعة "بأنه انتفخ سحره"، كناية عن الجبن، فغضب عتبة وكان أول المبارزين هو وأخوه وابنه، حيث قتلوا جميعاً.
تلك القصة تعطيك صورة واضحة عن شخصية العربي الذي يستفز ويخوض غمار الموت، رغم عدم قناعته، استجابة لسلطة المجتمع، وخوفاً من ذم المجتمع له حتى بعد موته.
الإنسان العربي لا يعيش لنفسه بل للمجتمع، فيرى نفسه من خلال المجتمع، ويقيم شخصيته تبعاً لتقييم المجتمع لها، فالمجتمع مرآة له يرى فيها نفسه.
الإنسان في العالم العربي يعيش بشخصيتين ويرتدي ثوبين، شخصيته الفردية التي لا يظهرها إلا أمام نفسه وضمن دائرته الضيقة، وداخل أفكاره وخواطره وحتى وساوسه، والشخصية الأساسية التي يلبس لباسها ويرتدي قناعها هي التي يظهرها في تعامله مع المجتمع، ويعامل فيها الناس، وهي التي أفرغ فيها المجتمع عاداته وتعاليمه، وتشربت أخلاق المجتمع، وتستجيب له بشكل تلقائي، لكن ذلك يلقي على كاهله مزيداً من المتاعب، كونه ينفذ ما يريد المجتمع، وليس ما تريده نزعته الفردية، فحتى إن لم يقتنع بكثير من المفاهيم، فهو مضطر إلى مراعاتها والاستجابة لها والخوف منها وقياس سلوكه وفقاً لقواعدها، فيصبح شغله الشاغل وهمه الأول هو إرضاء قيم ومفاهيم المجتمع.
سلطة المجتمع على الفرد لها بعض الجوانب التي يراها المجتمع قيماً إنسانية
فزواجه ليس لنفسه بل سيراعي فيه أسرته والمجتمع، فلو أن شاباً ينتمي لأسرة ترى نفسها أنها من كبار القوم تزوج فتاة تنتمي لأسرة أقل مرتبة اجتماعية فإنه سيواجه صعوبات وسينظر له كثير من أفراد المجتمع نظرة تخل من مرتبته الاجتماعية، وكذا لو حصل الأمر مع فتاة.
وعليه أن ينجب أولاداً ذكوراً للمجتمع حتى إن كان هو شخصياً يحب البنات، لكن المجتمع سيجعله مضطراً أن يتمنى إنجاب الذكور، بدءاً من أخيه، خاصة في المجتمعات العشائرية، وعليه يكون مهموماً في حال كثر في بيته إنجاب البنات، لأن أولاد أخيه الذكور سيتحولون في يوم من الأيام إلى سلطة رقابية ذكورية تهيمن على بناته وتمنعهن أن يتزوجن من غيرهم، وكذلك ينتمي الذكور لأيام الحروب التي هي سمة المجتمعات العربية، ولا سيما العشائرية، وليست كل تلك الحروب هي حروب طاحنة بالسلاح، بل هي أشبه بحرب باردة وسلطة ناعمة من خلال كثرة الذكور وكثرة المال والجاه، وكلها أدوات للتسلط السياسي في المجتمع.
يعيش المجتمع مع الإنسان العربي في فراشه الزوجي، فهو مضطر للتفاخر برجولته وفحولته، ولا يستطيع أن يذكر أي مشكلات تتعلق بقدراته من هذه الناحية، بل إنه يخشى زيارة الطبيب ولا يريد أن يعلم أقرب الناس إليه، وحتى إن كان مريضاً بالسكري مثلاً وقدم له الشاي المتخم بالسكر في مجلس فهو لا يستطيع رده، لكي لا يظهر ضعفاً يبدل نظرة المجتمع إليه ولكي لا يعطف عليه بنظرة الشفقة التي تحطمه نفسياً، ولا يمكن له أن يعبر عن حبه لزوجته أمام المجتمع، بل لا يستطيع ذكر اسمها إلا بعبارات "العيلة والأهل"، لأن ذلك يحط من قيمته، فهو وإن كان مقتنعاً لكنه مضطر لأن يقيم لهذا كل اعتبار.
هذا الإنسان العربي حتى في موته لا يموت هادئا لنفسه، بل سيموت للمجتمع، ويحاول أن يترك ميتة تذكر بالفخر وعلى الأقل لا تعاب!
أتذكر في الحرب السورية عندما تحلق الطائرة هادرة، تحاول تحديد الهدف الذي سيكون مدنيا في الغالب، لا يمكن لأحد أن يغير المكان أو أن يترك الجمعة، لأنه سيوصف بالجبن، ولذا عليه أن يبقى ضمن التجمع رغم خطورة التجمعات المدنية التي هي أهداف لطائرات الأسد، وحتى إن اعترف بخوفه، فإن هذا المجتمع لا يتركه وشأنه، بل يجعلونه عار عليه يذكرونه به كل لحظة وحين، فهو إذا لم يعترف لم يخلص منهم، وإن اعترف تكون الضريبة أكبر، وهذا ما يجعل الكثيرين رغم خوفهم لا يعترفون بهذا الخوف البيولوجي ويصمدون رغم اقتراب الموت، لكي لا يحدث لهم كما حدث لمن اعترف بخوفه، ولم يرحمه هذا المجتمع.
سلطة المجتمع على الفرد لها بعض الجوانب التي يراها المجتمع قيماً إنسانية، فمثلاً لا يمكن لهذا الإنسان بسبب سلطة المجتمع أن يضع والديه في دار المسنين، حتى إن كان يرغب في هذا الأمر، لأنه إن فعل ذلك سينبذ ولن تكون له قيمة بين الناس، ويؤثر ذلك على مصالحه.
كذلك تجعله صاحب مروءة حتى إن كان رافضاً لها، فمثلاً في المجتمعات العشائرية إذا ركب الشخص حتى إن كان صغيراً في السن في (السرفيس - الباص)، وكان بعض من الركاب نساء يعرفهن أو من عشيرته، فهو مجبر أن يدفع الفاتورة، حتى إن انقطع من المال، وإن لم يكن معه نقود توصله إلى الجامعة، وتعود به وتؤمن له (صندويشة)، ورغم ذلك يأتي إلى أهله فرحاً، وأمه وأبوه يشجعانه على هذا الفعل النبيل، وإن رأى عجوزاً تحمل أو يحمل أثقالاً يسارع في مساعدته، وإن وجد أحداً من عشيرته أو معارفه في معركة سيشارك دون أن يعرف من الظالم والمظلوم.
تلك القوانين الاجتماعية تتحول مع الزمن إلى أخلاق ملزمة للفرد بكل جوانبها، وعلى أساس هذه المفاهيم يقيم الإنسان نفسه، ويجد لذة لحياته ويتعب أيضاً منها، فبسبب نظرة المجتمع يحاول النجاح في مدرسته ويجد لهذا النجاح لذة لما فيه من تفاخر وتحدٍ للآخرين، وإن رسب يحصل معه العكس، أما الطالب الأوروبي مثلاً إن نجح أو رسب فالأمر مقتصر عليه شخصياً أولاً وثانياً، وعلى أسرته فقط ربما ثالثاً.