إلى سماحته... عن بر إرث والده

12 يونيو 2022
+ الخط -

في ليلة حبلى بالشجون والعبرات، ورغم الخلاف الذي أثارته، ألقى زعيم التيار الصدري سماحة السيد مقتدى الصدر خطابا مقتضبا في ليلة ذكرى استشهاد والده محمد الصدر مع أخويه الكبيرين..

ولمن لا يعلم فوالده أو زعيم "الحوزة الناطقة" كما كان يلقب من قبل أتباعه في فترة حكم النظام السابق، قد برز للناس في فترة الحصار الاقتصادي على العراق كمرجع ديني حض على صلاة الجمعة وحارب بعض المظاهر التي اعتبرها من المشبوهات كتقبيل أيدي رجال الدين (أظنها في خطبة الجمعة التاسعة عشرة)، وكذلك الممارسات الغريبة و"المبتدعة" كما كان يصفها في زيارة الأولياء والصالحين. وتم عام 1999 إطلاق وابل من رصاص غادر على سيارته المتسوبيشي الشهيرة واستشهد مع ولديه أعزل إلا من عصاه الشهيرة.

وعودا لما قاله ولده مقتدى الصدر في ذكرى استشهاده فلم نسمع الكثير حيث قطع حديثه غاضبا وقال للحاضرين ناهرا: "أنا زعلان عليكم"، وترك المنصة وتركهم. وقيل إن سبب "زعله" كون الجموع كانت لا تنصت وكان الجو صاخبا بالحديث أو ما شابه. وفي سابقة غريبة، انبرى أحد الإعلاميين المتشربين والمعتقدين بالنظام السابق اعتقادا راسخا لا شك فيه، إلى التحقير من تلك الجموع التي حضرت تلك الليلة ومقرعا الناس وهو متشح بالكفن الذي طالما اتشح به "الشهيد المقدس" محمد الصدر (كما يصفه أتباعه المخلصون)، وممسكا بعصى تشبه عصاه التي كان يتكئ عليها قبل الغدر به.

ومن المفارقة أن مقتدى الصدر في نفس تلك الليلة، اتهم النظام السابق كعقيدة ومؤسسات وهتف والجمع الحضور ضد ذلك النظام قبل أن "يزعل" ويتركهم.

كاريكاتور مقتدى الصدر: الإصلاح والانسداد السياسي

عند رؤيتي التسجيل لمغادرة مقتدى الصدر الجموع المحتشدة غضبان، تذكرت زميل السكن (حسن) الطالب في إحدى الكليات العلمية العالية والذي طالما أثار عجبي في ضحكه في وجه الموت وقلبه مليء بالخير والمحبة ومنها محبة صافية تجاه "الشهيد المقدس" من غير لقاء أو سابق معرفة..

وطالما تداول الكتب الفكرية والروايات والتي كان النظام آنذاك يعاقب من يحوزها أو يقرأها بأقسى العقوبات، وكأننا كنا نعيش في ما يشبه أحداث رواية 1984 لكن بنسخة مشوهة منها في عام 1998.

واأسفاه على حسن الخلق ومواقف الشهيد (حسن).. لقد أحب (حسن) محمد الصدر واعتقد به، فكان للأخير في صدر (حسن) ومن شاكله حب صاف طاهر، وغير مشوب بنوع آخر من الحب. ويتشارك مع (حسن) الكثير من الناس الذين التفوا بعدها ليساندوا مقتدى الصدر في تشكيل وبلورة ومن ثم إنتاج فكره السياسي. هذا الفكر إن اختلفنا أو اتفقنا معه، قد ترجم مؤخرا لثلاثة وسبعين مقعدا في مجلس النواب ليحتل "التيار الصدري" مركز الصدارة البرلمانية ككتلة أوحد بدون تحالفات.

لا أنسى منظر صلاة الآلاف من محبي محمد الصدر في تلك السنين العجاف وسجودهم أثناء مراسم صلاة الجمعة على الأسفلت الحارق ولا ظل يغشاهم إلا ظل تحدي شبح الخوف من الجلوس على القناني المهشمة "القعود على البُطُلْ" في مديريات الأمن العامة (وهذا ما كان يشاع من محبي السلطة كوسيلة وضيعة للردع بالتخويف)..

كانت حرارة الصيف وسخونة الأسفلت المختلطة بالخوف من بطش الدولة في زمن النظام السابق، تذهبها محبة محمد الصدر الصافية في نفوسهم. كنت أتساءل: هل حب فكر ومنهج يستطيع هزم سمعة بطش بنيت على مدى عشرات السنين، وهل يمكن أن يلتف الناس حول شخص لا مال له ولا قوة مسلحة يحميهم بها؟ وكان الجواب بنعم. كان التلاحم والتكاتف بين أبناء تيار السيد الشهيد والتأييد الشعبي الذي حضوا به مذهلا في تلك السنين العجاف.

لا جدال في محبة مقتدى الصدر لأبيه محمد الصدر، لكنه حب لا يخلو من عاطفة الابن لأبيه وحزن الأخير حزن اليتيم على فقد الأب والاخوة والذين قتلتهم أيد غادرة يعلم أصحابها مقتدى الصدر جيدا.

فلسماحتك أقول: إن حب الحضور الذين تركتهم مقرعا فأفسحت المجال لمن قتل أباك وقتل أهلهم في الماضي ليمعن في إذلالهم في الحاضر، في وقت ذكرى استشهاد محمد الصدر هو أسمى بكثير من حبك له.. هم أحبوه بلا صلة أبوةٍ، أو أخوة، أو مصاهرة، أو أي علاقة نسب أخرى، ومشوا على جمر الجوع والاضطهاد كي يقرؤوا فكره ومنهجه.

لم يمت (حسن) لتبيض عينا أمه من البكاء ثم ينحَر مرة ثانية في تلك الليلة! بل مات (حسن) من أجل حبيبه وحضر الناس من أجل حبيبهم وذكراه. وحبهم أعلى مرتبة من حبك له كما أثبتت دماؤهم في وقت الشدة والحصار والقبضة الفولاذية المخيفة..

فيا سماحة السيد مقتدى الصدر: وإن آذاك العراك السياسي وانهكتك مهاترات الخصوم وتقلبات الحلفاء، لكن أذكرك أنك كثيرا ما ناديت بكونك وريثا لمحمد الصدر في حمل المسؤولية، وحب الناس مسؤولية يجب عليك صونها.

وإذا توسعنا في موضوع صون محبة الناس، فما يصدر ممن ينوبون عنك في المشهد العام عند كلامهم وفعلهم، في وعن، ملفات الكهرباء والبلديات والصحة واحتراق الناس في المستشفيات والمطابع وغيرها من الأمور، يعد من كبائر المسيئات في حق اسم أبيك واسم عائلتك، والأمانة المتمثلة في محبة الناس لمحمد الصدر وفكره وخطه.

أقول قولي هذا واستسمح الشعب العراقي لي ولكم فالغفور عالم بالنفوس، لكن عباد الغفور لا يعلمون من وفاء المحبة إلا ما يقال ويفعل لاحترامها وتقديرها، ومن حسن الوفاء أيضا كف من ينوب عنك عن أذى الناس قولا وفعلا. وأيضا لا يلهِك أهل الانسداد السياسي وغيرهم من مخترعي المصطلحات المشبوهة، ولا ينسِك الانغماس في مشروعك الذي سميته "مشروع الإصلاح" الوفاء لإرث والدكم والمتمثل بمحبة الناس.

دلالات
مصدق العلي .. العراق
مصدق العلي
مدرس جامعي عراقي، ومهندس له تاريخ في العمل في ميكانيكا المواد الصلبة والليزر وتصميم الدوائراللاسلكية والتصنيع بالطباعات ثلاثية الأبعاد، يعمل حاليا في مؤسسة تويوتا البحثية في اليابان. يعرّف عن نفسه بالقول: "الحق حقٌ في نفسه، لا لقول الناس له".