إسلاموفوبيا؟ بل فلسطينوفوبيا

20 أكتوبر 2023
+ الخط -

مدهش ما يحصل! مدهش فعلاً. ماذا أقول؟ لا تفي الكلمة الغرض منها. ترفع المفردة التي تختارها للتعبير يديها عاجزة عن وصف المشهد المستمر. تحاول استبدالها: مذهل، مريع، مرعب، رهيب، مفزع... تفشل مجدّداً في إصابة المعنى. يا لهذا المشهد اللاأخلاقي المروّع للعالم. هل هذا هو العالم الذي نعيش فيه؟ هل حقاً أنّ ما يحدث، يحدث؟

 تخونني المفردات، كما تخون كلّ من يعلّق أو يغطي حرب الإبادة اللاأخلاقية واللاإنسانية التي يشنّها مجرمون إسرائيليون في بثّ مباشر على الشاشات، لا يحتمل تفسيرات أو تبريرات، ولا تغطية للعيون. ومع ذلك، يتغيّر خطّ "الخطوط الحمر" الوهمي الذي يحذّر الرأي العام المناصر لفلسطين من تجاوزه من مذبحة إلى أخرى، موحياً عكس المتوخى منه، أنّه لم يعد يمتلك أيّة هيبة أخلاقية، سياسية، قانونية أو إنسانية، طالما أن لا قوة تقف خلفه لتفرضه فرضاً. تبدو إسرائيل كما لو كانت في سباق مع نفسها، ومع الزمن، لقتل أكبر عدد من الفلسطينيين، إبادة معلنة على رؤوس الأشهاد.

أين هي الخطوط الحمر؟ هل هناك من خطوط حمر بعد كلّ هذا الإجرام الذي لا يصح وصفه بالفالت من عقاله؟ فالقول بأنّه هستيري، مجنون، يعطيه شيئاً من "عذر فقدان الصواب" في ردّ فعل. لا. هذا إجرام معتنى بتصوّره. "عاقل" ومتأنٍ لدرجة التفنّن والاستمتاع. 

ما هذا؟ تنهال عليك أخبار العجائب التي كنت تظن أنّها لا يمكن أن تحدث: من هاتفك، من الشاشات، من مواقع التواصل، في نشرات الأخبار والأنباء العاجلة. 

تنهار صورة العالم في مخيلتك كما تنهار المباني في زلزال يدوم لحظات، لكنه لا يبقي خلفه إلا مشهد الدمار. تحتار كيف ستهضم كلّ هذا؟

ما أن تظن أنّ الأمور توقفت عند هذه الفضيحة أو تلك، حتى تفاجأ بفضيحة تجعل من الفضيحة السابقة مجرّد خبر لا تملك الوقت للتعليق عليه أو استيعابه، لأنّ خبراً تالياً أصبح أهم منه. جرائم بالجملة: ضدّ الحريات، ضدّ الأصول المهنية الإعلامية، ضدّ القوانين الدولية، ضدّ حقوق الإنسان، ضدّ حرية التعبير... فعلاً؟ يعجز التعبير.

تبدو إسرائيل كما لو كانت في سباق مع نفسها، ومع الزمن، لقتل أكبر عدد من الفلسطينيين، إبادة معلنة على رؤوس الأشهاد

ومع ذلك، تتوالى الأخبار: حملة ترهيب ضد الرأي العام المناصر للقضية الفلسطينية في لندن وباريس. لا تكتفي فرنسا بمنع التظاهرات المؤيّدة لفلسطين (مجلس الدولة ألغى قرار الحكومة مساء أمس)، ها هي وزارة العدل الفرنسية تصدر تعميماً تعلن أنها بموجبه سوف تلاحق قضائياً حتى من يرفع علم فلسطين في تظاهرة أو يُبدي إعجاباً بأيّ منشور على النت يبرّر الهجوم على إسرائيل كفعل مقاومة! وزارة الداخلية ترفض رخصة كان مواطنون فرنسيون يساريون قد تقدّموا بها لتأسيس "الحزب ضد الرأسمالية"، وتلاحق أعضاء حزب "فرنسا المتمردة" وتشيطنهم. 

تتوالى الأخبار: فرنسا منعت تظاهرة تُقام سنوياً في السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول، تذكيراً بالمجزرة التي ارتكبتها فرنسا بحق جزائريين تظاهروا مطالبين بالاستقلال في باريس، فقامت برميهم في نهر السين. كان ذلك في العام 1961 قبل سنة من فوز الجزائر باستقلالها. 

لا لم ينته الأمر بعد، ونحن نتكلم فقط عن فرنسا وفقط في الأيام الثلاثة الماضية. 

معرض فرانكفورت للكتاب يلغي استضافة كاتبة فلسطينية (عدنية شبلي) لأنّه يريد إعطاء مساحة والتركيز على "الأصوات الإسرائيلية". الأصوات الإسرائيلية ليست عالية كفاية بنظر معرض فرانكفورت للكتاب. يا للثقافة ويا للقيم الأدبية العالية!

في لندن وباريس وألمانيا أيضاً، وأعتقد في بلدان أخرى، حملة تشجيع للمواطنين، وللصحافيين خاصة، للوشاية بمناصري فلسطين، ولو بمجرّد "لايك" على منشور إنترنت. أيام ألمانيا النازية، كان مواطنون فرنسيون وإنكليز وألمان يشون بجيرانهم، مواطنيهم اليهود، مع كامل علمهم أنهم سيؤخذون إلى معسكرات القتل. 

أميركي مسن، 71عمره، أيّ أنّه ليس مراهقاً طائشاً، يدخل بيت جيرانه من أصل فلسطيني، يطعن طفلهم ستة وعشرين طعنة. تحاول أن تتصوّر كيف اتسع هذا الجسد الصغير لكلّ تلك الطعنات؟ يقول والد الطفل وديع، أنّ المجرم، وهو مالك المنزل الذي تسكن فيه العائلة، كان على علاقة جيدة معهم، لا بل أنّ الطفل كان يحبّه. وأضاف باكياً أنّ طفله، على الأرجح، عندما رأى القاتل، قد يكون ركض باتجاهه ليعانقه! 

وصل التطرّف الفاشي إلى حرم قلاع كانت لحرية التعبير وحقوق الإنسان. يا للخيبة

لا يصدّق! كيف انقلب هذا الرجل؟ ما الذي سمعه ورآه ليفقد عقله بهذه الطريقة وينهال على جسد الطفل ذي السنوات الست بكلّ تلك الطعنات؟ الخنجر ليس مسدّساً. الطلقة فيها نوع من مسافة، أمّا الخنجر فشخصي، يعبّر عن رغبة جارفة بالقتل، بلمس دماء الضحية، بتذوّقها. 

لا تفهم. تكتفي الصحف بنشر الخبر دون تفسير أعمق، لكن الرئيس الأميركي يندّد بـ "جريمة كراهية مروعة ناتجة من إسلاموفوبيا".  إسلاموفوبيا؟ أم فلسطينوفوبيا؟ 

وهل كانت مستشفى المعمداني في غزة للمسلمين أو لحماس؟ في تغطيتها للجريمة تستخدم وسائل الإعلام مصطلح المعمدانية المسيحي بشكل مكثّف، تلحّ على التعبير كما لو أنّها تريد أن تضفي تبرؤاً إضافيا من تهمة "الإسلامية" المدانة مسبقاً في الإعلام العالمي، أو ربّما أن تستثير عاطفة غربية، دينية على الأقل مع فلسطين.

لكن لا حياة لمن تنادي. 

تنتشر أخبار المكارثية الجديدة. ترث أوروبا مكارثية أميركا التي عاشت خلالها أسوأ كوابيسها. فترة كان فيها المواطنون يشون ببعضهم خوفاً من تهمة الشيوعية! وصل التطرّف الفاشي إلى حرم قلاع كانت لحرية التعبير وحقوق الإنسان. يا للخيبة. 

تتوالى الأخبار: ثلاثون منظمة طلابية في جامعة هارفرد الأميركية العريقة، بينها منظمات يهودية، توّقع بياناً مشتركاً يحمّل "النظام الإسرائيلي كامل المسؤولية عن العنف"، ويؤكد أنّ عملية حركة حماس "لم تأتِ من العدم"، وأنّ "العنف الإسرائيلي يهيمن على كلّ جوانب الوجود الفلسطيني منذ 75 عاما". طلاب ومنظمات صهيونية في الجامعة يردّون بحملة ترهيب على أولئك الطلاب بوصفهم معادين للسامية. يخاف بعضهم فيسحب توقيعه. تحاول رئيسة الجامعة تدارك الموقف الذي بدأ يصبح خطيراً بتلقي موقّعي البيان تهديدات بالقتل والملاحقة، فتصدر بياناً اعتبره المتشدّدون خجولاً. تتعرّض الرئيسة للهجوم، فتصدر بياناً بلهجة أكثر تشدّداً تدين فيه حماس. تحاول الرئيسة حماية الطلاب، فتخفي القائمة الكاملة للمجموعات الطلابية الموّقعة من الوثيقة الأصلية "لأنّ بعض الطلاب تعرّضوا لنشر بياناتهم الشخصية على الإنترنت بدون موافقتهم". ليفاجأ الجميع بعد ذلك بتعميم أنصار إسرائيل من الطلاب، أسماء وصور زملائهم الموّقعين على البيان، عبر طبعها على ملصقات كبيرة، وإلصاقها كما في الإعلانات التجارية على باصات إعلانية تجوب الشوارع حول الجامعة تحت شعار "أكبر معادين للسامية في هارفرد". 

إن لم تكن تمتلك وسائل إنتاجك، فأنت نكرة، لا تستطيع نشر روايتك أو الترويج لمصالحك، وعليك أن تجلس في زاويتك، كما يفعل العرب اليوم، تنتظر الصيغة النهائية لصورتك التي لا تمت إليك بصلة

ما اسم هذا؟ تحريض على القتل؟ قتل معنوي؟ عنف؟ فكيف إذا أضفنا أنّ بعض رجال الأعمال طالبوا بتغريدات أوردها موقع "الحرّة" الأميركي "بالكشف عن أسماء الموقّعين لضمان عدم توظيفهم في المستقبل"؟ 

ومعروف أنّ خريجي هارفرد مرغوبون في وول ستريت، وفي أروقة الشركات العملاقة والتكتلات الاقتصادية من صانعي السياسة الغربية. 

هل انتهي الأمر؟ لا لم ينته. فلكلّ يوم، بل لكلّ ساعة، زادها من الأخبار التي باتت ترسم صورة مفزعة للعالم الذي نعيش فيه. 

زميلاتنا في "بي بي سي" عربي، المتمكنة ندى عبد الصمد والزميلة سناء خوري، أوقفتا عن العمل وأبلغتا بالاستعداد للتحقيق ولمقاضاتهما!

ما هي التهمة؟ لا شيء واضحا بعد. على الأرجح أنّه بسبب "لايك" لندى على تغريدة جد عادية لأحدهم قد لا تتذكرها حتى، و"لايك" وتعليق لسناء على تغريدة مناصرة لفلسطين. 

أمّا مراسلة "بي بي سي" فيما يسمّى "جنوب إسرائيل" التي تساءلت بكلّ "مهنية" إن كانت "حماس" تحفر أنفاقاً ومخابئ تحت المستشفيات في غزة، وذلك (يا للتوقيت) قبل يومين من قصف المستشفى المعمداني؟ فلم يقترب منها أحد. 

ما معنى هذا؟ هل كنّا غافلين لهذه الدرجة؟ هل كنّا لا نزال نعيش على أمجاد تعاطف أوروبا الستينيات مع القضايا المحقة في العالم مثل فيتنام وفلسطين؟ هل كنّا لا نزال نحلم "بحاملي الحقائب" الفرنسيين الناشطين في ثورة الجزائر؟ بأنّ العادلين المنصفين سيرفعون أصواتهم، ولو على حساب حرياتهم؟ صحيح هناك قلائل يفعلون، وكم نحن ممتنون لضمائرهم اليقظة، لكنهم أقلّ عدداً اليوم بما لا يُقاس. لا بل إنّ "تنظيفا" عميقاً حصل في الدوائر الرسمية الفرنسية ومراكز البحوث والإعلام على مدى عقود للتخلّص من أشباه هؤلاء. اليوم نرى النتيجة.

ماذا جرى لأوروبا منذ الستينيات حتى اليوم؟

نظرة متفحصة لمالكي الصحف ومنصات التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية، لا بل لغالبية وسائل الإعلام الغربية تفهمنا حجم المشكلة. فإمّا هم صهاينة كما في "فيسبوك" و"إكس" (تويتر سابقا) وأخواتهما، أو كما في وضع فرنسا، حيث يمتلك بضعة أشخاص غالبية وسائل الإعلام كما ظهر في خريطة نشرتها صحيفة "لوموند ديبلوماتيك" منذ بضع سنوات، وتبيّن أنهم صهاينة.

بالطبع ثمة أسباب أخرى كثيرة اقتصادية وسياسية للتحوّلات التي حدثت هناك، ولكن تأثير الإعلام على الرأي العام كمصدر للأخبار التي يتلقاها على مدار الساعة، لا يمكن إنكاره أو الاستخفاف به، وها هي النتيجة. 

إن لم تكن تمتلك وسائل إنتاجك، فأنت نكرة، لا تستطيع نشر روايتك أو الترويج لمصالحك، وعليك أن تجلس في زاويتك، كما يفعل العرب اليوم، تنتظر الصيغة النهائية لصورتك التي لا تمت إليك بصلة. 

حسناً.. ما هو الحل؟

حلولنا حتى اللحظة تشبه أسلحة حماس التي استخدمتها أثناء "طوفان القدس"، بدائية، خلاقة وفعالة، صحيح. لكن للأسف لا يمكن استخدامها إلا مرّة واحدة. 

ما الذي سينقذ الفلسطينيين اليوم؟

في هذا الوضع للعالم المتجه بخطوات حثيثة إلى الفاشية، الجواب للأسف واضح: لن ينقذ الفلسطينيين إلا الفلسطينيون بأنفسهم. 

يا وحدكم يا إخوتي.