أيهما أقوى: الفكر أم السلاح؟

16 اغسطس 2023
+ الخط -

أسأل صديقي: "أيهما أقوى الفكر أم السلاح؟"، فيبادر إلى الإجابة بالقول "بل المال أقوى". أعارض الإجابة ويستمر الجدال بيننا، يقدّم حججه، ويقول "اليوم إن لم يكن لديك مال، فلن تستطيع فعل أيّ شيء، مهما كنت، دولة، شخصا من عامة الناس، رجل أعمال، شعبا، أقلية...".

أُنصت بإمعان لحججه المقدّمة، وأباغته بسؤال آخر: "افترض أنّي أتفق معك. من يحميك إن كنت تمتلك أموال قارون، إذا هاجمك الغوغاء في يوم ما وهم يسألونك السؤال المحيّر: من أين لك هذا؟ من يستطيع أن يساعدك حينها". يجيب أيضاً: "بالسلاح يمكنني أن أوقفهم"، فأقول "وكم تستطيع أن تقتل منهم حتى يتوقفوا؟". ينزعج صديقي من أسئلتي ويفضل وقف النقاش، غير أنّ دماغي يأبى التوقف عن التفكير في هذا الإشكال: أيّهما أقوى حقاً، الفكر أم السلاح؟

دعكم الآن من حواري مع صديقي، ولنلق نظرة على مثال واقعي حي، وليكن الصراع على أفريقيا اليوم، إذ لا يشك عاقل في أنّه صراع يخدم المصالح الاقتصادية بالدرجة الأولى، حيث إنّ الدور الآن على الفردوس الأفريقي، نظراً لما يمتلكه من ثروات طبيعية، وذلك بعدما ظلّت هذه القارة خاضعة لسنوات للسيطرة الغربية التي تتصرّف فيها كيفما شاءت، فيما نرى اليوم أنّ هذه السيطرة المطلقة قد أصبحت محلّ تساؤل، ليس من قبل الباحثين أو الخبراء فقط، بل من سكان القارة أنفسهم، إذ لم يعودوا يطيقون وجود ناهب ينهب ثرواتهم تحت مسميّات متعدّدة. وما يحدث في النيجر اليوم، على سبيل المثال، قد يكون أوضح مثال على هذا الأمر. لكن ما يُثيرني في هذه القضية، ليس الانقلاب أو غيره، بل كيف يخرج مئات الناس أو الآلاف، وهم يتظاهرون ضد الوجود الفرنسي، بل ويهجمون على الأماكن الحسّاسة، القواعد العسكرية، السفارة..

لم تعد المنظومة الإيديولوجية للرأسمالية قادرة على إقناع شعوب العالم الثالث بشعاراتها البراقة، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان

في اعتقادي هذه الهزيمة التي تُمنى بها فرنسا في القارة الأفريقية، هي في الحقيقة هزيمة للقيم الفكرية التي تؤمن بها وتروّج لها هذه الدول، فهذه بعض مظاهر هزيمة الفكر الرأسمالي، وبالتالي نهاية قرون الاستغلال، وليس "نهاية التاريخ" كما كان يرى ذلك فرانسيس فوكوياما، حيث لم تعد المنظومة الإيديولوجية للرأسمالية قادرة على إقناع شعوب العالم الثالث بشعاراتها البراقة، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، والمساواة والحرية، وغيرها من الأفكار التي يسعى العالم الغربي إلى صرف مليارات الدولارات بغية نشرها في العالم الثالث من أجل استغلاله. وأكثر من ذلك، نرى اليوم بروز وعي جماعي لدى الشعوب المستحقرة، بخطورة هذه الأفكار، وبالتالي فهزيمة فرنسا ما هي إلا بداية لهزيمة أيّ هيمنة غربية على أفريقيا. ولكن يبدو أنّ مروّجي هذه الأفكار لم يستوعبوا الصدمة بعد، بل وما زالوا يراهنون على منطق القوة، كما فعلوا عبر قرون بغية استمرار هيمنتهم.

الوعي الذي بدأ يستشري في أفريقيا لم يأت من فراغ، حيث إنّ هناك فاعلين كثيرين يشتغلون على هذا الأمر ومنذ زمن. وربما اليوم بدأت تظهر للعيان تلك السنوات من العمل، غير أنّ هذا الأمر ولا شك أتى أُكله، إذ يكفي التذكير على سبيل المثال برمزية رفع الأعلام الروسية في المظاهرات، وافتتان الغرب بالتركيز على ذلك، حتى يُقنع الناس بأنّ ما يجري ليس سوى تدبير من روسيا المعتدية، وذلك بعدما شيطن صورتها في الإعلام الغربي. لكن الأكيد أنّ ما يحدث ليس لروسيا وحدها اليد فيه، بل هناك دول كثيرة تراهن على الاستثمار في أفريقيا، وعلى رأسها الصين، تركيا، دول الخليج... والقائمة قد تطول. وبعض هذه الدول يركز على منطق رابح رابح، كما أنّ بعضها يطمح لاستعادة روابط تاريخية، مثل المغرب، واعتمادها كعوامل تقوية.

على التلفاز أشاهد مذيعاً أسمر اللون يقدّم الأخبار بالفرنسية، فريق كرة القدم يمثل راية فرنسا، غير أنّ أعضاء الفريق كلّهم من أفريقيا، وعلى القناة نفسها، يظهر خبر عن غرق مجموعة من الأشخاص كلّهم ينتمون إلى أفريقيا. أغيّر القناة، فأرى رجلا أسمر اللون أيضا يأخذ بيد فتاة شقراء، يتنزهان في الحدائق، ويستجمان على شواطئ البحر بلباس صيفي... كلّ هذه الأحداث أجدها بمثابة الورقة الأخيرة للعالم الغربي، ليظهر أنّه يهتم بأفريقيا، وأنّ قيمه فعلاً حقيقية، غير أنّ هذه الإيديولوجيا أصبحت واهية، ولم تعد تُطعم خبزاً، بل هي أصبحت دلائل على حقيقة الاستغلال، وبالتالي ضعفها وانهيارها.

الفكر أخيراً هو الذي ينتصر، صدقني يا صديقي.

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".