أين أنت من سليمان العيسى؟

21 سبتمبر 2022
+ الخط -

قال لي أبو صالح إنه كان يحضر أحياناً أمسيات في المركز الثقافي بمدينة إدلب، وكان يراني هناك كثيراً.. هذا كله كان قبل أن ألتقيه مصادفة في مزرعة ابن عمتي مازن، ووقتها تعارفنا، وصرنا صديقين، واستمرت هذه الصداقة حتى الآن، على الرغم من فارق السن بيننا.

قلت: عندنا في معرة مصرين مثل شعبي، مؤكد أنك تعرفه يا أبو صالح، يقول (قلبي من العَجُّور مَنْجُور، ومن الحامض لاوي).. الآن، كلما تذكرت الأمسيات الأدبية، أتذكر هذا المثل، وتحضر أمامي مجموعة من المواقف الغريبة، أو لنقل الطريفة.

- نعم، أبو مرداس، أظن أنني قرأت لك بعض المقالات حول هذا الموضوع قبل ثورة 2011. هل تذكر بعض تلك المواقف الآن بعد مضي كل هذه السنين؟
- طبعاً. اسمع هذه. ذات مرة دعينا لحضور أمسية في المركز الثقافي بإدلب، لشاعر مقيم في العاصمة. وقد سبق اسم الشاعر في البطاقة صفة (الكبير).

الحقيقة أنني لا أحب إطلاق أي صفة على الأدباء والفنانين، لأنها تحتوي على حكم قيمة، ومصادرة للآراء. يعني، مثلاً، إذا حضر باحث في أحد فروع العلوم، ليلقي محاضرة، وأنت قدمتَه لي بقولك: العالم الكبير، العلامة، الفَهَّامة الـ الـ الـ... فهذا يعني أنك ترغمني على قبول ما يطرحه عليّ من أفكار، دون أن أمتلك أنا أو غيري الحقَّ في نفي أو دحض أو تكذيب أية فكرة تصدر عنه.

- أنا أوافقك على ما تقول عدا استثناءات قليلة. فمثلاً، لا بأس من إطلاق لقب أمير البزق على محمد عبد الكريم، وعميد الأدب العربي على طه حسين، وموسيقار الشعب على سيد درويش، وكوكب الشرق على أم كلثوم، وموسيقار الأجيال على محمد عبد الوهاب..

ثم قال للجالس بجواره بصوت مرتفع، باعتبار أنهما ثقيلا السمع: الله وكيلك البرد في هذا اليوم يقص المسمار!

- معك حق، ولا تنسَ سفيرتنا إلى النجوم فيروز، وموسيقار الأزمان فريد الأطرش، وهو نفسه ملك العود. ولكن عندما يُفتح هذا الباب يصبح من الصعب إغلاقه، وتنهمر الألقاب، كما يقول المثل: عَ اللي يسوى واللي ما يسواش. المهم. عندما قرأنا اسم الشاعر (الكبير) في البطاقة، كان بيننا على الأقل خمسة أشخاص لم يسمعوا به البتة، والذين سمعوا باسمه قالوا إنه شاعر عادي، فمن أين له الكبر؟ وبرأيي، وبموضوعية: ربما كان شعرُه فوق الوسط بقليل، أو كما يقول صديقي أبو محمد سمارة: ابتداء من "البرغل بعدس" وأنت طالع! المهم، تغاضينا عن صفة (الكبير) التي ألصقت به زوراً، وذهبنا لنسمع شعره. تمام؟

- حتى الآن أكثر من تمام.

- فاجأنا ذلك الشاعر الكبير، في تلك الأمسية، بأنه متعدد المواهب، ولكننا نحن (الجمهور) نجهل ذلك. بمجرد ما اعتلى المنبر، توجه إلينا بالسؤال: هل تعلمون، أيها الإخوة، أنني أكتب شعراً للأطفال؟ قال له أحد الحاضرين: لا والله، لا نعرف. وأنا، بيني وبين نفسي، وجدتُ أن طرح موضوع شعر الأطفال في مركزنا الثقافي ينطوي على مفارقة، لأن جمهورنا أقرب ما يكون من الناحية العمرية إلى الشعب الإنكليزي العجوز، أنا، على سبيل المثال، كنت يومئذ مشرفاً على سن الستين من عمري، ومع ذلك كنت أبدو بين الحاضرين وكأنني ولد جيء به إلى هنا لكي يخدم أعمامه المحترمين! وهذه لا أقولها على سبيل الممازحة والتنكيت، فخلال الأمسية دخل أحدهم، ودفع باب القاعة بعكازه، ولكن الباب لم يغلق، وإذا بواحد من الجمهور يقول لي: زكاة عافيتك يا إبني يا خطيب، سَكّرْ لنا الباب!

ثم قال للجالس بجواره بصوت مرتفع، باعتبار أنهما ثقيلا السمع: الله وكيلك البرد في هذا اليوم يقص المسمار!

وفي مرة أخرى تشردق أحد الموجودين، ولولا أنني أسعفته بكأس ماء ودححتُه بالبوكس على ظهره لكان المركز الثقافي بإدلب خسر واحداً من أكثر المداومين على حضور أمسياته.

بعد الأمسية دخلنا لنشرب -أو إذا شئت نحتسي- كأساً من الشاي في مكتب مدير المركز، وإذا بالشاعر الكبير يفاجئنا بأنه يريد أن يسمع رأينا فيما ألقى من أشعار. وبما أن قصائده كانت تراوح في مستوى (مكمور الباذنجان) كما يقول صديقي أبو محمد سمارة، فقد شرعنا، نحن الحاضرين نتهرب من مناقشته، قائلين إن كتابة الشعر للأطفال عملية صعبة، وإن التنظير فيها أصعب.. وروى له أحد الحاضرين نادرة عن الكاتب الكولومبي الرائع غابريال غارسيا ماركيز الذي كان يتهيب الكتابة للأطفال، وعندما أراد أن يكتب، شرع يجهد نفسه في تبسيط اللغة والمعاني، وبعدما نشر أول قصة للأطفال، التقى بطفل عمره عشر سنوات، سأله: عمو غابريال لماذا أنتم الكتاب تعتبروننا نحن الأطفال أغبياء إلى هذه الدرجة؟

وحكى آخر عن الكاتب العبقري هانز كريستيان أندرسون، وثالث تطرق إلى كتاب مارسيل ايمي الذي ترجمه عن الفرنسية الأستاذ حسيب كيالي، وعنوانه حكايات القط الجاثم. وختمنا أجوبتنا بجملة واحدة هي التالية: على كل حال الله يعطيك العافية!

المفاجأة الأكبر ضمن تلك الأمسية هي أن صاحبنا شرع يقارن نفسه، في مجال شعر الأطفال، مع الشاعر سليمان العيسى! ولكي يزيد في طيننا بلة، وفي طنبوريِّنا نغماً، قال إن في شعر سليمان العيسى ضعفاً واضحاً للعيان، وهو أن أشعاره تكاد تخلو من القيم الأخلاقية، أما هو، أقصد الشاعر الذي وصفوه لنا بأنه كبير، فتكاد لا تخلو قصيدة من قصائده من عشر أمثولات أخلاقية، مثل احترام الكبير و(العطف على الصغير)، وهذه الأمثولة الأخيرة أنا أراها غير ناضجة، مثل الحصرم، فالطفل بطبيعته صغير، فكيف سيعطف على الصغير؟! هل يعني ذلك أن يعطف الطفل على البيبي، مثلاً؟

حصل لغط وجدال إثر طرحه هذه الفكرة، وأنا بدوري قررت أن أنفد بجلدي، ولكنني لم أتمالك نفسي، فقلت له قبل أن أغادر: برأيي أن أي كاتب، أو شاعر، أو أديب، سواء أكان سليمان العيسى أو غيره، يبتعد في شعره عن دحش القيم الأخلاقية في نصوصه، هو كاتب جيد بالضرورة، والعكس صحيح.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...