أيلول والميمات السورية الثلاث
يحتفل البعض بقدوم شهر أيلول برطوبته المحببة بعد صيف حار، بألوانه الخريفية الهادئة التي تساهم في رسم لوحة طبيعية رومانسية، يعتبره البعض شهر الاستقرار والعودة إلى العمل، لترتيب البيت الداخلي، للهدوء والاستكانة لجدران البيوت الأليفة، شهر الاستغناء عن المراوح والمدافئ، وشهر الصباحات المنعشة والأمسيات الحالمة.
لكن للحكاية السورية قولاً آخر، إنه شهر الميمات الثلاث، مدارس، مونة، مازوت! ثلاثية الاستنزاف والهموم الكبرى، وفي كل (م) منها مساحات شاسعة من المسؤوليات والنفقات والهموم، والأكثر قسوة أنه لا بدائل لتلك الميمات الثلاث، لأنها مرتبطة بالطبيعة وبتوقيت رسمي مثبت للعودة إلى المدارس، كل التفاصيل إذن خارج خيارات ورغبات الجميع ومقدراتهم.
حسم المكدوس، وهو الوجبة السورية المشهورة جداً، والتي تعتبر مؤنة اقتصادية يحبها الجميع وتغني وتشبع، أمره وقرر التحول إلى مظلومية تبكي العيون وتقهر القلوب، يتم حساب كلفة القطعة الواحدة منه ليتوصل البعض إلى رقم خمسة آلاف ليرة للمكدوسة الواحدة. ربما أجده رقماً مبالغاً فيه، لكن مهما تضاءلت هذه الكلفة فستبقى في دائرة العجز الكلي المنطلق عن تموينه، خاصة بعد الارتفاع الجنوني لسعر الزيوت، وخاصة زيت الزيتون والموافقة على تصديره، رغم أن كل المؤشرات والوقائع تشير إلى موسم هزيل جداً قد لا يساوي ثلث حجم الموسم الفائت.
تلاشت الرغبة، وفعلياً أن من تلاشى هو المقدرة على تموين الأجبان، وخاصة اللبنة المجففة والمحفوظة بزيت الزيتون أيضاً، إذ وصل سعر الكيلو غرام الواحد من الحليب إلى ستة آلاف ليرة، ووصل سعر كيلو الجبن البلدي إلى أكثر من ثلاثين ألفاً، وفي ظل غياب المحروقات وعدم توفرها بالحد الأدنى المطلوب للاعتماد عليها لغلي الحليب وتحضيره وتحويله إلى لبن أو لغلي الأجبان لحفظها، تصبح فكرة المونة بحد ذاتها فكرة عصية على التحقق، وحتى عن التخلّق في الذهن من أصله.
بات الشتاء غولاً يأكل القلوب المرتعشة مسبقاً من برد لا يرحم، تنشغل الغالبية بالتفكير بالمازوت وتفاصيل تأمينه وبآليات تدبر توفيره بكميات أقل من كافية لكنها مطمئنة
أما الميم الثانية وهي المدارس، فقد تحول موسم العودة إلى المدارس إلى كابوس حقيقي يؤرق الطلاب وأهاليهم. العجز هو السمة المطلقة للواقع، وارتفاع الأسعار صدم الجميع ويصدمهم بصورة يومية متصاعدة، لدرجة أن عدداً لا يستخف به من الطلاب والطالبات قد قرر التوقف عن الدراسة نهائياً، بسبب الأعباء العصية على أن يتحملها الأهل، ولو بصورة جزئية أو بالتكافل مع بعض المبادرات الفردية والجماعية التي انتشرت، أو أُعلنت عبر منصات التواصل أو عبر بعض المراكز المجتمعية أو الأهلية، ويمكن القول إن المبادرات هذا العام صارت أكبر وأكثر اتساعاً من كل المبادرات السابقة لتأمين الكتب والدفاتر والزي المدرسي والحقائب.
لكن وللأسف لا تصل هذه المبادرات لجميع مستحقيها، وقد لا تكفي من أصلها للجميع، عدا عن أن مشكلات تفصيلية أخرى تحتاج حلولاً، مثل النقل وكيفية الوصول إلى المدارس، لدرجة أن قضية النقل وأجور المواصلات تحولت بحد ذاتها لمانع كبير يعيق العملية التعليمية برمتها.
وعن الميم الثالثة، (المازوت)، وسيلة التدفئة الأكثر اعتماداً والأكثر شعبية، شجون وحكايات عصية على الجمع أو الروي، بات الشتاء غولاً يأكل القلوب المرتعشة مسبقاً من برد لا يرحم، تنشغل الغالبية بالتفكير بالمازوت وتفاصيل تأمينه وبآليات تدبر توفيره بكميات أقل من كافية، لكنها مطمئنة، المهم أن تجد طريقها إلى البيت بكلفة نقل محمولة، وأن تنجو من عبث أيادي الغشاشين والسارقين بها. وبات الاستحمام حلماً يعجز الغالبية عن تحقيقه، وتحول الاستحمام بحد ذاته إلى رواية كلما روينا أحد فصولها فاجأنا الفصل التالي بشدة قسوته وتغوله.
الأهم أن تأمين أي كمية من المازوت كفيلة بتهدئة الرعب المقيم من أيام ظالمة ومرعبة، أيام يتضافر فيها الشح بالخوف من المجهول، والفقدان هو السمة العامة لتفاصيل الحياة اليومية، حياة صارت خزان هموم مهما تعددت حروف مسمياتها.