أنا من أبناء الريف.. هذه ليست شتيمة أو عيباً
خلال سنوات مراهقتي كنت أشعر بالنقص تجاه أبناء المدن، وأحسدهم لأسباب كثيرة جداً متعلقة بالميزات والخدمات الموجودة في المدينة، وطبيعة المجتمع وتنوعه الثقافي والاجتماعي.
حين بلغت الـ 18 من عمري أرسلني والدي لدراسة البكالوريا في معهد خاص في المدينة، وخلال العام الدراسي أصبح لديّ صديق من أبنائها، وقد دعاني في إحدى المرات لزيارته والنوم في منزله.
صعدنا الدرج وبدأت بالعدِّ: طابق، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، أحسست بالفرح والدهشة حين رأيت منظر المدينة لأول مرة من ارتفاع خمسة طوابق حيث الشوارع والمنازل المضاءة والسيارات والناس الذين يتحركون في الليل حتى وقت متأخر والمحال التجارية المفتوحة والضوضاء وغير ذلك الكثير.
كانت تلك الليلة حدثاً استثنائياً بالنسبة إلى مراهق يعيش في قرية لا يوجد فيها أبنية سوى من طابق واحد، وطريقها ترابي وغير مضاء، وفيها سيارتان زراعيتان فقط، وسكانها جميعهم لا يخرجون ليلاً من منازلهم إلا في حالات قليلة لزيارة بعض الجيران والأقارب، وأيضاً لا يوجد فيها دكان.
رغم فرحي ودهشتي في تلك الليلة، شعرت بالحزن، وبأنّ الحياة ليست عادلة، وأنّ الناس درجات ومقامات، وبأنه لا يمكنني أن أقارن نفسي بأبناء المدن المرفهين المتحضرين المثقفين.
مع الوقت، اتسعتْ دائرة أصدقائي ومعارفي في المدينة، وأصبحت أذهب برفقتهم لحضور النشاطات الثقافية والسهر، لكنني لم أكن أجرؤ على أن أدخل في النقاشات والحوارات التي تحدث في تلك السهرات عن الأدب والسينما والموسيقى والعلاقات النسائية وغير ذلك.
كل ما كنت أفعله في تلك السهرات هو الإصغاء، والشعور بالدهشة تجاه أشخاص يتمتعون بالثقافة والمعرفة والمهارة في سرد أفكارهم وآرائهم حول كل المواضيع. وفي حال سألني أحدهم بالمصادفة عن رأيي، كنت أشعر بالخجل والارتباك وأجيب باختصار شديد وذلك لأسباب عدة منها؛ قلة المعرفة والثقافة وعدم امتلاك المهارة في طرح رأيي بشكل جيد ومقنع.
في ظل غياب ثقافة قبول الآخر عند بعض أبناء مدينة اللاذقية، وغيرها من المدن السورية والعربية، ما زال حتى الآن أبناء القرى يعانون من التنمر والسخرية
بعد انتهاء كل سهرة كنت أشعر بالنقص، والكثير من المشاعر السلبية، إلى درجة أنني فكرت أكثر من مرة في أن أقطع علاقتي بالمدينة وأبنائها، لكنني لم أفعل. لماذا؟ لأن رغبتي في المعرفة والبحث والاستكشاف وتطوير نفسي كانت أقوى بكثير من تلك المشاعر، ما جعلني لاحقاً أشتري أو أستعير أي كتاب أو فيلم سينما أو كاسيت لمطرب ما يتم ذكره أمامي.
مع الوقت صرتُ قادراً على قول رأيي بثقة والدفاع عنه، والدخول في الحوارات والنقاشات في شتى المجالات. وقبل أن أتجاوز الـ 25 من عمري كنت مقتنعاً بأنني لست أقل شأناً وثقافة ومعرفة من أبناء المدينة، لأنني ابن قرية.
رح تبقى هيك كل عمرك ابن ضيعة
حين أسّسْتُ مقهى قصيدة نثر في اللاذقية عام 2008 مع الصديق ذاته الذي نمت في منزله، كان لدينا حلم بأن نكون جزءاً من الحراك الثقافي في سورية، ونقدم شيئاً، ولو بسيطاً، في مجال الثقافة، وخلال وقت قصير حقق المقهى من خلال النشاطات التي قمنا بها حضوراً لافتاً.
بسبب المقهى، أصبح احتكاكي مع أبناء المدن من كافة الشرائح الثقافية والاجتماعية واسعاً وشبه يومي تقريباً. في بعض الجلسات كان هناك أشخاص - وتحت بند المزاح - يُقلّدون لفظي لبعض الكلمات الريفية التي أستخدمها خلال حديثي، وأحياناً في حال قلتُ رأيي في موضوع ما وكان مخالفاً لرأيهم كانوا يقولون لي وتحت بند المزاح أيضاً: "إنتَ ابن ضيعة شو بيفهمك بهيك مواضيع؟" أو "مو ناوي تتمدن؟ رح تبقى هيك كل عمرك ابن ضيعة؟"، بالطبع بعد كل انتقاد يؤكدون لي أن كلامهم هو على سبيل المزاح ولا يقصدون فيه أي إساءة أو سخرية. في الحقيقة لم أكن أصدقهم لذا كنت أرد عليهم بقسوة أحياناً.
لاحقاً سمعت كلاماً نقله إليّ أحد الأصدقاء فيه كثيرٌ من التنمر والعنصرية والاستياء من وجودي كابن قرية لديه مقهى ثقافي في المدينة. من الكلام الذي سمعته على سبيل المثال قول أحدهم: "معقول ابن الضيعة يلي جاي من وراء البقر بدو ينشر الثقافة بمدينتنا؟". وهناك من قال: إنني سأريِّفُ المدينة؛ لأنني مهما فعلت سأبقى أحمل ثقافة الريف المتخلّفة في داخلي ولا يمكنني أن أتمدّن. وقال آخر: لم ولن أناقش هذا القروي المتخلّف بأي موضوع؛ لأن أي نقاش معه حول أي موضوع يجعلني أشعر بالسخف.
للأمانة التاريخية عدد هؤلاء المتنمرين كان قليلاً جداً، وبعضهم كان آباؤهم، وليس أجدادهم، من أبناء القرى الذين سكنوا المدينة حديثاً!
حين سمعت هذا الكلام انزعجت في البداية وأحسست بالتنمر والإهانة، ولكنني مع الوقت، وبعد تفكير، لم يعد هذا الكلام مزعجاً بالنسبة إليّ لأسباب لها علاقة بمعرفتي أكثر بالناس وطبائعهم، ولأنني لم أعد أشعر بعقدة النقص تجاه أبناء المدن كلها وليس فقط مدينة اللاذقية، ولأن كلمة "ابن الريف" ليست شتيمة، وتربية الأبقار والدجاج وغير ذلك من الثروة الحيوانية ليست عيباً، ولأنه بالفعل لدي أبقار ودجاج وأنا أزيل مخلّفات تلك الحيوانات وأضعها كسماد عضوي لأشجار الحمضيات.
في ظل غياب ثقافة قبول الآخر عند بعض أبناء مدينة اللاذقية، وغيرها من المدن السورية والعربية، ما زال حتى الآن أبناء القرى يعانون من التنمر والسخرية. من جهة أخرى وكرد فعل على ذلك، هناك بعض أبناء القرى يقولون إن طبيعة العلاقات بين غالبية أبناء المدينة تفتقر للصدق والبساطة، وتقوم على المصلحة الشخصية والاستغلال والأنانية وغير ذلك الكثير.