أسبوع حافل بالموت
الحكايات قاسية جداً، ستتهمني الغالبية بالعدوانية تجاه الرجل، سيقولون تجاهلت حرمة الموتى والموت وأفشيت أسرار العائلات.
هكذا جرت العادة، الصمت عن عنف الرجال مسكوت عنه في الغالب، والموت محطة للانتقام! نعم إنها حكايات بلا رحمة، وقد لا يصدقها بعضهم، لكنها حقيقية والعنف المخبأ خلفها متوحش جداً.
مات خالد! شاب لم يتجاوز الخمسين من عمره، مات في بيت عشيقته، التي هجر زوجته وابنتيه وعائلته ومدينته ليعيش معها، بعيداً عن الجميع وفي قرية بعيدة وغريبة.
اختلفت الأخبار الواردة من هناك، هي زوجته وليست عشيقته والزواج تم بعقد عرفي! لا بأس! هل وجود ورقة زواج عرفي تخفف المصيبة عن زوجته وابنتيه، لا أبداً، تداول بعضهم أخباراً مفادها بأنّ خالد يرسل نقوداً لعائلته كل شهر، هل كان يقصد من يروي الحكاية للدفاع عنه ووصفه بأنه عادل وكريم وغير مقصّر تجاه عائلته؟
حاول شقيقه تعميم هذا الخبر، وحاولت أمه تعميم وصف محدد للزوجة المهجورة، باردة، مقصرة في حق ابني، لكن كل الأخبار لم تغير في الواقع شيئاً، مجرد تراكم أخبار غير مؤكدة تساهم في شد وثاق الرواية لتخلق مبررات غير مقنعة لأحد حتى لخالد.
بعد فشل رحلة محاولة إسعافه وخروجه ميتاً من المشفى، جاؤوا بالنعش، طلب خالد أن يدخل جثمان أخيه إلى بيت العائلة ليخرج في رحلته الأخيرة من بيته، بيته؟ يا له من توصيف منافق وخادع.
رفضت الزوجة بحسم، هذا ليس بيته، فلتخرجوا نعشه من حيث كان يعيش لعدة سنوات متواصلة، حاولت الأم اللعب على عاطفة حفيدتيها، رفضتا بقوة أكبر ورددتا كلمات قاسية، لم يعتد وربما لم يتوقع المجتمع سماعها من قبل، أسقط في يد الجدة، تدخل خال خالد مهدداً الزوجة: سنحرمك من الميراث إن رفضتِ دخوله البيت، أجابت: افعلوا كل ما ترغبون به وأنا جاهزة لمقاضاتكم.
هو الموت موعد مع الانتقام، لا تسمية أخرى لما حدث وسيحدث مع عائلات أخرى، في ظل غياب العدالة المجتمعية وتقبل الناس لعنف الرجال وخياناتهم
هو الموت موعد مع الانتقام، لا تسمية أخرى لما حدث وسيحدث مع عائلات أخرى، في ظل غياب العدالة المجتمعية وتقبل الناس لعنف الرجال وخياناتهم، ستنظر الزوجات المهجورات لحظة الموت ليقلن لقلوبهن: جاءت لحظة التعويض، لحظة المحاسبة، لحظة الانتقام، لحظة الرد القاسي الذي ساقته الحياة من دون أي تدخل.
لماذا نروي هذه الحكاية؟ هل سيتوقف الرجال عن اتخاذ عشيقات دائمات لهم بعد قراءتها؟ من المؤكد أنّ هذا لن يحصل، والزوجات المهجورات المتروكات متأكدات من عجزهن عن استعادة أزواجهن إلا في لحظة الموت أو الإصابة بالشلل أو المرض المزمن وغير القابل للشفاء، إذن هي لحظة مقابل لحظة، وموقف مقابل موقف، والحكاية لمن يرويها أولاً وأخيراً، لكنه يرويها كما حصلت تماماً وكأنها حصلت للتو، لكن بقلوب منكسرة، تنكشف فوراً تلك الندوب المخبأة بالقهر والمحاطة بالألم، ستبكي الأم ابنها الضال، لكنها ستبكي من تحول موت ابنها لحكاية تدور على الألسن وابنها ضعيف وصامت وغارق في موته، وستبكي الزوجات سنين أعمارهن وقد انقضت في محاولات لجمع الأخبار عن زوج غادر دونما سبب، أو دونما إخبار، وستبكي البنات أباً يردنه حياً وقريباً منهن، عطوفاً وكريماً، وأباً كما آباء قريباتهن ورفيقاتهن، سيبكين الأب الحلم المستحيل.
على ورقات النعي تبرز الروابط ما بين الميت والأسماء المكتوبة فيها، إنها تصريح خطي معتمد يرتبط بالأصول والفروع، هي لحظة تفكك كل هذه الارتباطات للتحول إلى أسماء واضحة ومعلنة.
رفض ابن وداد ذكر اسم أمه على ورقة نعي والده، قال لعمّه الذي رافقه إلى المطبعة، هي ليست زوجته، هي زوجة الغياب، زوجة الفراغ الكبير الذي حفر في قلبها مرضاً دائماً، يحيجها لجلسات إرذاذ للأوكسجين، كاد العم أن يصفع ابن شقيقه، تدخل قريب آخر وقال: عيب، لا وقت للانتقام الآن، لكن الابن كان مصرّاً وهدد بتمزيق كافة أوراق النعي، قالت العمة: ما فائدة ذلك؟ الكل يعرف أنهما جسدان منفصلان كل في بلد، لكن الابن أجاب: جسدان منفصلان برغبة منفردة وبقرار من دون مقدمات، من حق أمي ألا تعامل اليوم وعلى الورق فقط كزوجة!
الملفت، تلك القوة التي تستمدها الأمهات من الأبناء والبنات، لكنها هل تكفي تعويضاً عن سنين الهجر والحرمان؟، تتذكر وداد كم مرة اتهمها أهل زوجها ووالدها بالجنون والعناد، فقط لأنها قررت أن ترفع دعوى تفريق، كان الجميع يتعامل معها علناً وكأن زوجها طفل صغير، أغوته حورية قادرة وأن لا حول ولا قوة له لردّ هذا الإغواء، طالما وعدها بل وأكد لها الجميع أنّ زوجها سيعود نادماً راجياً قبول التوبة ليعود أباً على رأس عائلته، وفي الخفاء كانوا يرددون: لا دخان بلا نار، لو لم تكن غير صالحة لتكون زوجة، لما هجرها أصلاً.
أسبوع واحد، مات فيه زوجان هجرا عائلتيهما بقرار منفرد، أحدهما كان يتباهى غير خجل بكرمه واستمراره في دعم عائلته مادياً، وآخر كان يردد: أعرف أني خربت بيتي لكني لست السبب أبداً.
ما بين موت وحياة، وما بين اتهامات جاهزة لإسكات النساء الرافضات للتبعية إلى أزواج أموات، يصير الموت نهاية منتظرة، نهاية موعودة، تنهض كل الجروح وتبرز كل الندبات، ويتحول البكاء اليوم لاعتراف عميق وناجز بأنّ تلك العلاقة قد انتهت إلى غير رجعة، حاملة معها أوجاعاً ستصير بعد لحظة الود مجرد ذكريات، لكن من يعيد للنساء جزوة السعادة وللأبناء والبنات حضور ولهفة ومعنى أن يكون لهن/م آباء، حتى لو كان الآباء أولاداً في ماضٍ بعيد جداً، لكنهم كانوا كما تعني الكلمة ولو بنسب مختلفة، المهم أنها تخلو من انتظار الرحيل كحل منفرد ووحيد، تخلو من الشعور الغامر بالانتقام على جناح موت نهائي ومعلن.