أبو عصوص يحمل البارودة الروسية

27 يوليو 2017
+ الخط -

حدثني أبو نزار المفلسف، قال:

كنت، في أيام الصبا، أجلس في دكان أبي الذي يبيع الخضار والفواكه في السوق الجواني من بلدتنا الصغيرة، فأرى، خلال زمن قصير، عدداً كبيراً من الناس، كل واحد بشكل، وكل واحد من موديل، وكل واحد من منظر، وكل واحد له نغمة تختلف عن نغمة الثاني! 

وكان من بين هؤلاء الناس العابرين شاب يكبرني بأربع سنوات، لا أعرف ما هو اسمه الأصلي، ولكن أهل البلدة لقبوه "أبو عصوص"، وهو لقب ذو منشأ مُعَقَّـد، فهم، عادةً، يشتقون الأسماء من صفات كائنات موجودة وتحمل ألقاباً خاصة بها، فالرجل النحيف تكون مؤخرته صغيرة، مثل مؤخرة النعجة الضعيفة التي يسميها مربو المواشي (أم عصوص)..

وأبو عصوص، رغم كل هذا، شاب طيب، مسالم، يريد سلته من دون عنب، وميال إلى المزاح والضحك،.. ولكننا فوجئنا به ذات يوم يعبر السوق الجواني بوجه مكفهر، أو كما يقول أهل البلد، وجه يقطع الرزق. 

كان يرتدي بنطالاً له ثلاث ثنيات في وسطه، وقميصاً فضفاضاً حشره داخل البنطال فانتفخ وكأنه يخبىء في داخله بطيخة أو كرة يد. وكان يحمل على كتفه بارودة طويلة، أغلب الظن أنه تسلمها من إدارة الدفاع المدني التي اعتادت أن تسلح بعض الأشخاص في أيام الحروب، بوصفهم خط دفاع رابعاً أو خامساً،.. وتُدَرِّبُ بعض البنات على أعمال الإسعاف والتمريض كنوع من المؤازرة للمستشفيات والمستوصفات.. 

ويبدو أن "أبو عصوص" كان على علم مسبق بأمر تسلمه للبندقية، فذهب من توه إلى صانع الأحذية الـ"صرماياتي" الشهير "أبو سعدي" وطلب منه أن يركب له في أسفل "البوط" الذي يلبسه قطعاً من الحديد المرقوق التي كانت الواحدة منها تسمى "مَيَّالة".. فأصبح حينما يمشي على البلاط القديم في السوق الجواني يُصدر صوتاً رهيباً: طق، طق، طق.. والناس ينظرون إلى خلقته المكفهرة ويسمعون إيقاع ضرب ميالاته بالأرض فيزوَرّون بوجوههم عنه ويقولون:

- يا لطيف! الله يبعد عنا أولاد الحرام!

وفي يوم من الأيام ذهبت مع أحد أصدقائي لمراجعة إحدى الجهات الرسمية لمتابعة معاملة إدارية تخصني، ولما دخلنا مكتب سكرتيرة المدير المسؤول فوجئت بأبو عصوص جالساً هناك، فسلمت عليه مستبشراً أن تنقضي حاجتي بوساطته، ووشرحت له وضعي، ولكنه رد علي بفتور واستعلاء، وقال لي، متحدثاً من بين شفتيه، إن حاجتي ستكون مقضية بشرط أن تكون قانونية! وأضاف:

- الله يخليك يا أبو نزار، إذا كان فيها "غَبَّرتي كَلَّستي" لا تخليني أخجل مع الرفيق!

فحلفت له إنها قانونية مئة بالمئة.

قال لي: أي، خلينا ننتظر.

جلست أنا وصديقي على كراسي الانتظار بينما شرع هو يذرع المكان جيئة وذهاباً شابكاً يديه خلف ظهره بطريقة توحي بالأهمية.

وفجأة.. ومن دون سابق إنذار، رأيناه يهرع إلى قماشة قطنية برتقالية كانت مرمية في زاوية من مكتب السكرتيرة، حملها ودخل إلى مكتب الرفيق المدير بسرعة البرق، مسح الطاولة والكرسي بحركات مدربة، وما إن انتهى من ذلك حتى دخل الرفيق الذي لم يسلم عليه، بل إنه مد يده وأعطاه مفاتيح سيارته، فانجرد أبو عصوص خارجاً من المكان، ومن فرط سرعته اصطدم بي وبصديقي، ووقتها تقدمنا من المدير وقدمنا له المعاملة، فتحها وتصفحها وقال بإيجاز:

- سجلوها في الديوان. وأنا بعدين بشوفها.

نفذنا ما وجهنا به المدير، وخرجنا من المبنى لنرى "أبو عصوص" وقد شمر عن ساقيه إلى ما فوق الركبتين وشرع يغسل سيارة الرفيق بإخلاص واستبسال، ومن دون أن يلتفت نحونا قال:

- بشرني يا أبا الخير. إن شاء الله معاملتك تيسرت؟

فجأة خطرت لي فكرة، فوقفت ووضعت يدي على كتفه، وقلت:

- مصير معاملتي متعلق فيك يا أخي أبو عصوص. لأن الرفيق حلف بالطلاق بالثلاثة إذا ما نظفت سيارته وخليتها تلمع مثل جنح الدبور ما راح يمشيها.

وتركته ومشيت وأنا أقول لصديقي ما سمعته من الناس حينما شاهدوا أبا النخلة مدججاً بالسلاح والميالات لأول مرة:

- يا لطيف! الله يبعد عنا أولاد الحرام!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...