2015 في الدبلوماسية التونسية: اختراق إقليمي ودولي دون المطلوب

31 ديسمبر 2015
سعى السبسي لكسب ثقة الولايات المتحدة وأوروبا (شيب سمودفيلا/Getty)
+ الخط -
انعكست الثورة التونسية التي شهدتها البلاد قبل خمس سنوات، على علاقة تونس بجيرانها وبأصدقائها السابقين. وانقسم السياسيون التونسيون بين وجهتي نظر، تيار متمسّك بالدبلوماسية التقليدية لتونس التي كانت قائمة على التعاون مع الجميع وعدم التدخّل في شؤون الدول الأخرى، في حين دعا آخرون إلى "تثوير" السياسة الخارجية من خلال الانخراط في الدفاع عن قيم الحرية والعدالة في كل مكان. وهو ما أحدث اضطراباً ملموساً في السياسة الخارجية التونسية. فماذا حدث بعد أن انتقل المشهد السياسي من حالة المؤقت إلى مرحلة استقرار المؤسسات الدستورية؟

بعد خمس حكومات متتالية، وتوالي رئيسين على البلاد بعد الثورة، جاء انتخاب الباجي قائد السبسي رئيساً للجمهورية ليطرح مع وصوله إلى قصر قرطاج سؤالاً عمَ سيطرأ على السياسة الخارجية التونسية؟ هذا السؤال كان مشروعاً لعدة اعتبارات، من بينها أن السبسي بورقيبي إلى العظم، ودبلوماسي سابق مشهود له بالحنكة، وسبق له أن وجّه انتقادات حادة لسلفه المنصف المرزوقي متهماً إياه بالفشل الدبلوماسي وإلحاق الضرر بمصالح تونس الخارجية. فماذا حدث بعد سنة من ممارسة الحكم من قِبل حزب "نداء تونس" وتشكيل حكومة الحبيب الصيد القائمة على الائتلاف الرباعي وتحديداً على التناغم بين حركة "النهضة" والجزء الأغلبي من "النداء"؟

لم تشهد الدبلوماسية التونسية في العام 2015 تحوّلات جذرية، بقدر ما حاولت أن تُعالج الملفات الموروثة عن المرحلة السابقة، وعلى الرغم من الجهود التي قام بها السبسي من خلال زياراته المكثفة إلى العديد من العواصم العربية والغربية، إلا أن النتائج لم ترتقِ إلى مستوى الطموحات، ولم تستجب للاحتياجات الحقيقية للشعب التونسي المرهق أمنياً واقتصادياً واجتماعياً. فالوعود كانت كثيرة، لكن الحصاد بدا قليلاً.

وكان التحدي الأول الذي واجهه السبسي في المرحلة الأولى من توليه الرئاسة، هو تحقيق الانسجام الكامل بينه وبين وزير الخارجية الطيب البكوش. فالأخير لم يسبق له أن مارس العمل الدبلوماسي، وهو ما جعله يختلف في البداية مع السبسي الذي اضطر أن يذكره بأن السياسة الخارجية هي من صلاحيات رئيس الجمهورية حسب الدستور.

العلاقات مع الجيران

عرف الملف الليبي طيلة عام 2015 سلسلة من التقلّبات أثرت بشكل واضح على المناخ السياسي والأمني بين تونس وليبيا، وأدت في بعض المحطات إلى إغلاق الحدود المشتركة لمدة أيام قبل فتح بوابة رأس جدير أمام حركة المسافرين والسلع في الاتجاهين. ونظراً للاعتداء الذي حصل على الدبلوماسيين التونسيين داخل قنصلية طرابلس التي تمت إعادة فتحها في محاولة لتأمين مصالح التونسيين وخلق توازن بين طرفي النزاع داخل ليبيا، فقد اضطر الطرف التونسي لإعادة إغلاق هذه القنصلية من جديد. مع ذلك حرصت الدبلوماسية التونسية على المساهمة بفعالية في معالجة الأزمة الليبية. وجاء اللقاء الذي عُقد في تونس بين رئيسي الهيئتين التشريعيتين المتنازعتين على الشرعية (المؤتمر الوطني العام وبرلمان طبرق) ليكون بمثابة الاختراق السياسي الجدي لأجواء الاقتتال الأهلي. وشكّل ذلك فرصة كشفت عن دور تونسي نشيط وإن كان غير مباشر لتقريب وجهات النظر بين الليبيين من دون التدخّل في شؤونهم الداخلية.

أما العلاقات مع الجزائر، فقد ازدادت قوة في عهد السبسي الذي تربطه صداقة قديمة بالرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة. ويمكن القول إن العلاقات بين البلدين تمر بأفضل عهودها، حيث يسود تعاون استراتيجي بينهما غير مسبوق في المجال الأمني لمواجهة التهديدات الإرهابية الموجّهة ضد الدولتين. وتسعى تونس بشكل موازٍ لهذا التعاون لإقناع الجزائريين بتوسيع استثماراتهم في البلاد. فيما أسهم الجزائريون في التخفيف من حدة الأزمة السياحية التي أصابت تونس إثر الهجوم المسلح في مدينة سوسة الساحلية.

اقرأ أيضاً: السبسي في السعودية... طي صفحة سوداء من إرث المخلوع

التعامل مع سورية ومصر

من الملفات التي كانت محل خلاف بين السبسي ووزير خارجيته، كيفية إدارة العلاقة بدمشق. فمن المسائل التي استندت إليها حملة السبسي الانتخابية ضد منافسه المرزوقي، هي إعادة العلاقات الدبلوماسية مع نظام بشار الأسد. لكن عندما انتقل السبسي من المعارضة إلى رئاسة البلاد، أدرك أن ذلك يمكن أن يُحدث ضرراً بالمصالح التونسية نظراً للعزلة الواسعة جداً التي يواجهها الأسد على الصعيد الدولي، ولهذا تدخّل للضغط في اتجاه عدم التسرّع في تطبيع العلاقات مع النظام السوري حتى لا تجد تونس نفسها محشورة في الزاوية، حيث تم الاكتفاء بالترفيع في مستوى التمثيل التونسي من دون تعيين سفير جديد في دمشق.

على صعيد آخر، ورث السبسي عن حكومة الترويكا ملفاً شائكاً يتعلق بمصر تحت رئاسة عبدالفتاح السيسي. وقد كان موقفه بأن صراع النظام مع "الإخوان المسلمين" ليس سوى شأن داخلي، وعلى الدبلوماسية التونسية أن تستند في علاقاتها إلى "الشرعية"، واعتبر أن السيسي هو الرئيس المنتخب والمباشر لإدارة شؤون البلاد بغض النظر عما يقال حول الانتخابات، فإن مصلحة تونس تقتضي التعامل مع هذا الأخير. وبناء عليه قام السبسي بزيارة رسمية إلى القاهرة ساعدت على استئناف العلاقات الثنائية بين البلدين، وقد عمل السبسي على إقناع رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي بعدم الاعتراض على هذا الاختيار بحجة أن السياسة الخارجية جزء لا يتجزأ من صلاحيات رئيس الجمهورية.

السعودية بوابة للخليج

على الصعيد الخليجي، استمرت العلاقات إيجابية مع كل من قطر والكويت. وكان المراقبون يتوقعون أن تشهد العلاقات التونسية الإماراتية في عهد السبسي تحسناً ملحوظاً، خصوصاً بعد "الهدية" التي تلقاها السبسي خلال حملته الانتخابية، والتي تمثّلت في سيارتين مصفحتين لحمايته من التهديدات. لكن سرعان ما انكمشت العلاقات من جديد، خصوصاً بعد التقارب السياسي الذي حصل بين السبسي والغنوشي.

بناء عليه، وفي مسعى من الرئيس التونسي لتنشيط العلاقة مع عموم الخليج، توجّه إلى الرياض في زيارة رسمية قبل أسبوع، حيث استقبله الملك سلمان بن عبدالعزيز والقيادة السعودية بكل ترحيب، وتلقى من قيادة المملكة وعوداً جدية بتقديم كل ما تحتاجه تونس من دعم ومساعدات. وهو ما جعل السبسي يؤكد أن زيارته إلى السعودية تُعتبر من أنجح الزيارات التي قام بها إلى الخارج منذ توليه رئاسة البلاد. وترى مصادر مطلعة ونافذة داخل قصر قرطاج أن السعودية يمكن أن تكون بوابة مفتوحة لتسوية العديد من الملفات العالقة مع بقية دول الخليج.

الغرب مع تونس... ولكن

نشطت الدبلوماسية التونسية منذ الثورة حتى اليوم لكسب ثقة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، مع انفتاح نسبي على روسيا والصين. وعلى الرغم من عمق العلاقات التونسية الغربية، إلا أن حجم المساعدات المقدّمة لتونس بقيت محدودة من جهة، ومشروطة في كثير من الأحيان من جهة أخرى. لكن أوروبا والولايات المتحدة قدّمتا سنداً سياسياً هاماً لتونس ما بعد الثورة، وقد تعزز ذلك بعد فوز السبسي وحزبه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. كما تم الترحيب بالتحالف الذي حصل بين السبسي والغنوشي، الذي رأت فيه الحكومات الغربية فرصة لتحقيق الاستقرار السياسي. وعندما اشتدت الأزمة السياسية داخل "النداء"، عبّرت حكومات غربية وكذلك مؤسسات تمويل دولية بشكل مباشر عن قلقها وانزعاجها، وأبلغت موقفها بشكل صريح للرئيس التونسي، وهو ما جعله يتطرّق إلى أزمة الحزب في خطاب علني موجّه للتونسيين، عبّر من خلاله عن خوفه من أن ينعكس هذا الخلاف على المصالح العليا لتونس.

وعلى الرغم من كل ما حققته الدبلوماسية التونسية عربياً ودولياً، فإنها لا تزال مُطالبة بمزيد من العمل من أجل توفير دعم خارجي مباشر وملموس ودائم، وهو ما تستعد للقيام به خلال السنة الجديدة 2016 سواء بقي البكوش على رأس الوزارة أم تم تغييره، خصوصاً بعد أن وفرت جائزة نوبل للسلام مناخاً إيجابياً لصالح تونس يمكن أن يتم استثماره بشكل جيد وفعال. فالثورة التونسية لا تزال تشكّل رأسمالا رمزيا صالحا للاستعمال إذا وضعت لذلك الخطة المناسبة والمدعومة بإرادة سياسية قوية وفاعلة.

اقرأ أيضاً: تونس: انقسام سياسي حول "التعاون" مع إيران

المساهمون