174 "مولاً" ينقضّ على العطارين التونسيين

03 ديسمبر 2014
المولات أكثر من مركز تسويق (فتحي بلعيد/فرنس برس)
+ الخط -
يكاد لا يخلو أي حيّ أو تجمّع سكني صغير في تونس من دكّان "العطّار". فالعطار، أي المتجر التقليدي الصغير، لا يمثل سوقاً للسلع الاستهلاكية وحسب، بل هو رمز اجتماعي ونتاج العادات والتقاليد المحفورة في ذاكرة المواطنين. بدأت تنحصر موجة العطارين في تونس لصالح التجمعات التجارية الكبيرة أو ما يطلق على تسميتها "المولات". فبعدما كان العطار يلعب دور المزوّد ‏الرسميّ لكلّ سكّان المنطقة بما تحتاجه من أدوات وسلع استهلاكية، بدءًا بالمواد الغذائيّة وصولاً إلى مواد التنظيف والسجائر، بات اليوم مهددا بالإقفال نظراً لتراجع حجم أعماله بشكل لافت.

المجمعات التجارية الكبرى
وقد شهدت تونس خلال العقدين الماضيين تغييراً جذريّاً في عادات المستهلكين ونمط التوزيع والترويج، بعد المجمعات التجاريّة ‏الكبرى. فقد خلقت هذه الفضاءات تمايزا على مستوى الأسعار وطريقة ‏العرض وقدرات الترويج والتسويق. ما مثّل هاجساً لأصحاب المحلات الصغيرة الذّين باتوا يشتكون من المنافسة غير ‏المتكافئة التي فُرضت عليهم فرضاَ.
‏"عمّ عليّ"، أو "علولو" كما يحلو لأهل حيّ "لافييات" في وسط العاصمة أن ينادوه. لم يستطع إخفاء ضيقه الشديد من ‏المركز التجاريّ الذّي يبعد عن محلّه مئات الأمتار، ويقول: "تحول المول إلى كابوس يهدّد رزق الآلاف من ‏أصحاب المحلات الصغيرة. فهذه الفضاءات لم تترك لنا شيئاً نبيعه للمستهلك ونتميّز به عنها، بل وتعمد إلى التخفيض في ‏الأسعار بما لا يتناسب مع قدراتنا. فنحن لا نستطيع أن نجاريها على مستوى التزوّد أو البيع، ممّا أجبر العديد من أصحاب ‏المحال على الإقفال والبحث عن مورد رزق آخر".‏
ويشير العم "علي" إلى أن العلاقة بين "العطّار" والزبون تتجاوز بعدها التجاريّ لتتحوّل في كثير من الأحيان إلى صداقة حقيقيّة بين صاحب ‏المحلّ وأهالي الحيّ. فالعطار هو المكان الوحيد الذي يقبل البيع بالتقسيط والتغاضي عن التأخير في الدفع وهي أمور لا تجدها في تلك الفضاءات التي لا ترحم.‏
أما نجيب فهو شاب من الجنوب التونسيّ، انتقل إلى العاصمة ليفتح محلاً صغيراً (دكان) في منطقة "باردو". يؤكد نجيب بعد فترة من بدء عمله، تراجع ‏مدخوله بسبب المولات الكبرى التي انتشرت في كلّ محافظات البلاد. ويشير إلى أن الفروع الكثيفة في كلّ حيّ من ‏أحياء العاصمة تتحوّل إلى شبكة تخنق العطّارين وتركنهم جانباً. مؤكداً أن مستقبله بات مهدداً بأي لحظة لإقفاله نظراً لتراجع الأعمال.
القدرات التسويقيّة والتلاعب بهامش الربح، معياران تعتمدهما السوبرماركات في جذب المستهلكين بحسب ‏الخبير الاقتصادي محمد ياسين الساحلي. ويقول ياسين لـ "العربي الجديد": "استطاعات المولات التجاريّة الجديدة أن تغيّر النمط الاستهلاكي ‏للمواطن التونسي، حيث صارت عمليّة التسوق نزهة عائليّة وفرصة لكسر روتين الحياة اليوميّة عبر ما توفّره ‏من خدمات ترفيهيّة كالمقاهي وفضاءات الألعاب والمطاعم. بالإضافة إلى تقديمها العروض الاستثنائيّة ومواسم التخفيضات والهدايا ‏الممنوحة للزبائن، وغيرها من استراتيجيات التسويق المعتمدة في مختلف دول العالم.‏
ويضيف الساحلي: "مكنت المراكز التجارية أن تنشئ لنفسها شبكة واسعة من الفروع تصل إلى المستهلك أينما ‏كان". وتفيد الأرقام التي وردت في الدراسة التي أعدّها المعهد الوطني للإحصاء لسنة 2011 أنّ عدد المولات التجاريّة ‏الكبرى بفروعها المنتشرة في كامل أنحاء البلاد بلغ 174 مركزاً تتوزّع بين "كارفور ماركت" و"شامبيون" ‏و"بريكوراما" و"مونوبري". ‏
تبرز أهمية هذه المولات على المستوى الاقتصاديّ من حيث قدرتها التشغيليّة العالية والتي بلغت بحسب نفس الدراسة ما ‏يقارب سبعة آلاف موظف وعامل في مختلف الفروع، بالإضافة إلى مساهمتها بما يقارب 2% من الناتج المحليّ الخام. ‏
وبالرغم من فائدتها، إلا أن المخاوف من تمدد سيطرتها على توجهات المستهلك تبقى الهاجس الأكبر والمهدد الرئيسي للاقتصاد وفق الساحلي. إذ إن "خطورة سيطرة السوبرماركت على السوق واحتكارها لمسالك التوزيع يمنحها ‏القدرة على التحكّم في توجّهات المستهلك، والضغط على المصنّع التونسيّ والتحكّم في الأسعار وفقا لمصالحها دون مراعاة ‏مصلحة المصنّعين المحليّين والصالح العامّ".‏
ويضيف الساحلي "لا تقف خطورة انتشار السوبرماركت على هذا النحو فقط، فهي تمس الجانب الاجتماعيّ أيضاً. فالدكاكين الصغيرة تعتبر صمّام أمان لحالة ‏السلم الاجتماعيّ ووسيلة تنفيس عن الضغط الذي تسببه مشاكل البطالة في تونس؛ كونها استثمارات بسيطة ولا تتطلّب الكثير ‏من الموارد. خاصة وأن عدد "العطّارين" في تونس بلغ في العام 2011 وبحسب التقرير الأخير لوزارة التجارة 264 ألفا موزّعين على كامل ‏البلاد".‏ ويؤكد الساحلي أنه يتوجب المحافظة على تواجد الدكاكين ‏الصغيرة التي تمثّل جزءاً هاماً من المشاريع الخاصّة في تونس، والتي تبلغ نسبتها من التشغيل ما يناهز 40% من إجمالي ‏اليد العاملة في القطاع الخاصّ.
المساهمون