16 كلمة هزّت الشرق الأوسط

25 ديسمبر 2018
+ الخط -
العنوان أعلاه مقتبسٌ من عنوانٍ مشابه وضعه الكاتب الأميركي اليساري، جون ريد، عندما دوّن وقائع الثورة البلشفية العظمى عام 1917، في كتابٍ سردي تحليلي ممتع للغاية، حمل اسم "عشرة أيام هزت العالم"، ترجمته دار التقدم في موسكو إلى معظم لغات العالم، وصار مرجعاً لكل المهتمين بتاريخ تلك الثورة.
ما نحن بصدده اليوم هو تلك الفقرة المكونة من ست عشرة كلمة، التي غرّد بها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من على منصة "تويتر"، معلناً قراره المفاجئ سحب قوات بلاده من شمال شرقي سورية، وإدارة ظهر القوة العظمى لحلفائها بغتة، الأمر الذي منح خصوم الولايات المتحدة وأعداءها هدية مجانية كبرى، وأحدث بقراره هذا فراغاً استراتيجياً، اهتز بموجبه الشرق الأوسط كله.
تقترح هذه المطالعة السريعة عدم الانشغال كثيراً بدوافع ترامب وراء هذا القرار، الصادم حتى لكبار مساعديه، بمن فيهم وزير الدفاع العاقل الوحيد في إدارة الرجل الذي يغيّر مواقفه كما يغيّر ربطات عنقه، ولا يأبه إلا بما يخدم مصالحه الذاتية الأنانية، كرئيس لا كوابح لديه، بدأ حملته الانتخابية مبكّراً لتجديد ولايته في البيت الأبيض، مدركاً أنه بمثل هذا الانسحاب الدراماتيكي يدغدغ عواطف جمهورٍ عريضٍ ذي ميولٍ انعزالية متنامية.
ولعل العبرة الأساسية المستخلصة من سحب المظلة الاستراتيجية التي وفرتها أميركا لحلفائها في هذه المنطقة، طوال ما مضى من وقتٍ طويل، مفادها بأن إدارة ترامب لا يمكن الوثوق بها بعد اليوم، وأن لا حليف لها على الإطلاق، وأنه محذور على أي عاصمة في هذه المنطقة، وربما خارجها، تصديق تعهدات الولايات المتحدة، أو الركون إلى التزاماتها المعلنة إزاء أي شأنٍ من شؤون الشرق الأوسط وشجونه الكثيرة.
ليس الحديث هنا عن الأكراد الذين يبدو أنهم لم يشبعوا من خذلان الولايات المتحدة لهم، وغدرها لهم، سواء في سورية أو العراق، ولا عن إسرائيل التي يتحدث قادتها عن ضربة قاسية لحقت بهم، وأضعفت موقفهم الاستراتيجي، وإنما الحديث عن حلفاء أميركا العرب، ممن صدقوا أن لواشنطن سياسة صارمة في مواجهة المشروع الإمبراطوري الإيراني في المنطقة، وأن في وسعهم التعويل على الصديق الصدوق الذي يرتبطون به بمصالح حيويةٍ واسعة، وعلاقاتٍ تاريخيةٍ متينة.
وأكثر من ذلك، فإن فراغ القوة الذي أحدثه دونالد ترامب من دون مسوغ، غير حساباته الشخصية البحتة، يجب أن يكون بمثابة جرس إنذار قوي، مدوٍ، وهو أن خطوة الانسحاب هذه لن تكون الأخيرة في سلسلة الانسحابات المحتملة، ليس من شرق الفرات فحسب، وإنما من العراق وأفغانستان، وربما من تايوان وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وأوروبا، وغيرها من مناطق النفوذ الأميركي الأخرى، الأمر الذي يشير إلى مسار انكفاء أميركي متدرج وبعيد المدى، بدأت ملامحه المبكرة في عهد باراك أوباما.
ومما تجدر ملاحظته، بين يدي هذا الانسحاب المدوي في أربع جهات الكرة الأرضية، أن تدخل الولايات المتحدة، عسكرياً، في أي منطقة، يؤدي إلى وقوع زلزال مدمر ذي ارتداداتٍ واسعة النطاق، يشمل المحيط المجاور كله، وأن انسحابها يُحدث، في المقابل، زلزالاً لا يقل درجة عن تداعيات تدخلها ذاته، نظراً إلى وزن القوة الأميركية الراجحة وفق كل المعايير. وفي الحالتين المتضادتين، لا تُسأل واشنطن عن الشرعية الدولية، أو المسوغات القانونية والأخلاقية، ولا تقيم اعتباراً إلا لمصالحها الذاتية.
وأحسب من بين الدروس الثمينة الكثيرة، والعبر السياسية المفيدة، التي تنطق بها هذه الخطوة الأميركية، أنه ليس لدى دونالد ترامب المتقلّب خطة استراتيجية إزاء إيران، أو غيرها، ولا حتى إزاء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، المهزوم حسب ادعائه، وأن الرجل يفتقر إلى رؤيةٍ يعتدّ بها حيال سلام الشرق الأوسط، بما في ذلك تلك الصفقة الجاري الحديث عنها منذ نحو عامين، الأمر الذي يدعونا جميعاً إلى عدم الانهماك في تحليل وتعقب الإشارات المتفرقة عن تلك الصفقة، التي ليست سوى كلامٍ فارغٍ لا معنى له، وفق كل الدلائل الحسّية.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي