يوم جيد جداً

02 مارس 2020
+ الخط -
أعرف مثل هذا اليوم السيئ. مع صلاة الفجر يداهمني الرشح والعطس وحرقة الحلق، وأشعر ببعض البرد وبرجفة داخلية وإن لم تظهر الحرارة بعد. صرت أمرض بمعدلات أكبر. أظنني "أكبر"..

ها هو مجددا هاجس المرحلة المتكفل بحمل كل الأحزان. لن يسعني النوم ولا الاعتذار، فالذهاب للعمل هاجس آخر دائم، ومنغص حاضر ولو عدمنا كافة المنغصات. أخرج وأطلب من حسيني إخراج السيارة، فلن أحب رؤية القطة الرمادية الحامل وهي تتمطع على الزجاج وتثيرني بنظرة اللامبالاة التي تنظر إلي بها وهي تتهادى لتكمل نومها فوق سيارة الجيران.

تراني هدى زوجة البواب شاحبة، فتعترض طريقي كعادتها بوابل من الأسئلة والنصائح والدعوات. لا أبدو متفاعلة كالعادة، فتنصرف بعد أن أطلب منها شراء بعض الطلبات. "أرجوك يا هدى لا تشتري القلقاسة الواحدة بوزن كيلو ونصف لأنني المرة الماضية استعنت على تقطيعها بالجيران! الوسط حلو!". تضحك وتتكلم كثيرا ثم تتركني لأعطس وأسعل براحتي.

الطريق الصباحي عذاب وتذكير قاسٍ بدفء السرير. كغيري أتنفس في الطريق كميات من العادم تكفى لسرطنة قرية سويسرية. لماذا سويسرية؟ لأنني أحقد عليهم، وعلى الشوكولاته التي يأكلونها، وعلى الجمال الذي يسبحون فيه!


طبيعي الآن أن أصل وأنادي على جمال السايس ليتسلم مني "التهمة" التي أقودها حتى أتمكن من الدخول للمكتب قبل أستاذ مصطفى. وطبيعي ألا يتواجد جمال فى تلك اللحظة بالذات.. فهو يشتري سجائره، أو يناكف زميلا له في زقاق قريب، أو يقوم بركن سيارة أخرى. المهم أنني سأتعرض حتما لضيق السائق المنتظر خلفي، ولأصوات آلة تنبيهه البشعة.. وغالبا لصوته الذي يدعوني لأن أرحم "أهله" على الصبح! وطبعا سأعيد الدوران حول المنطقة صاغرة حتى ألمح جمال، فأنطلق خارج السيارة تاركة بابها مفتوحا ليأخذها ويتصرف فيها ولو "بتسريبها"!

مؤكد مصطفى يجلس على مكتبه الآن، وسينظر لي نظرة المنتصر، فقد تأخرت وأعطيته فرصة عمره لتفريغ بعض شحناته السالبة الكثيرة عليّ. ثماني ساعات أخرى بهذا البرد والتعب ستنقضي حتما كالدهر.

اليوم أتمنى ألا يتمشى مصطفى ببروده المعتاد حتى مكتبي ليبتسم بسماجة ويشرح لي المشكلة الكونية التي حدثت في المكتب الرئيسى بسبب الملف الذي قمت بتجهيزه. وأتمنى ألا تعيد عبير رواية تطاول حماتها عليها للمرة المائة، قبل أن تستدير لتسألني بعضا من ينابيع حكمتي قائلة: "مش والنبي حقي لما أقولها شوفيله خدامة تانية يا طنط؟!". وأتمنى جدا أن تتغيب سهام، فهي عبء لا أتحمله في صحتي فكيف بمرضي؟! أما مكالمات الأولاد التي تصفها ماما بأني أجيبها وكأنني أدير مرفق النجدة، فأمرها سهل. سأصيح في أول مكالمة بنبرة الأسد التي أجيدها تماما، وسأطلب منهما عدم الاتصال إلا لو كانت الحالة "حياة أو موت"، والأعمار بيد الله على كل حال.

أتذكر فرحتي بتسلم هذا العمل منذ عشر سنوات. مركز محترم وراتب كبير يحلم به الكل. بئس الأوهام! ألم يُفتِ أحدهم يوما بحرمة العمل في البنوك؟! سأخرج هذه الفتوى يوما وأرتدي النقاب وأستقيل ولن يستطيع مخلوق مراجعتي! ليذهبوا جميعا إلى الجحيم.. أو ليتسلموا مني هذه الشغلانة فهي جحيم يستحقه أغلبهم!

أخيرا الساعة الرابعة!
ها قد استهلكت عبوة مناديل عائلية، وكوبي شاي، وواحد ليمون، وأربع حبات مسكنة ومضاد التهاب، وأنجزت أربع وريقات كان يمكن لحسن الساعي إنجازها ببعض التدريب! حقا.. ما أروع ما قدمته للبشرية اليوم!

رحلة العودة تشبه كثيرا رحلة الصباح، وإن زاد البشر حدة وحنقا وشراسة بعد يوم بائس كيومي. لن أتوقف لشراء شيء اليوم. بعد هذا القرار بدقيقة أتذكر أنني أحتاج الكثير من الليمون وها هو البائع على اليمين. أقف بصعوبة، وأطلب من الليمون والموز والبرتقال واليوسفي والكيوي وأنتظره..

تظهر بجانبي سيدة صغيرة الحجم ومتواضعة المظهر تمسك بطفلين. تقف وتنظر طويلا للأنواع، ثم تتقدم خطوتين نحو صحن معدني به بقايا بلح سماني نصف معطوب يملؤه الذباب. تطلب بصوت ضعيف نصف كيلو. أختلس نظرة للبلح وأختنق. يرد البائع أن الكيلو بجنيهين.. ثم يضيف بضيق:"خديهم كلهم يا حاجة". تحرج المسكينة وتخبره بأنهم لا يحبونه وأنها تشتريه لنفسها فقط. أتعمد التأخر وعدم أخذ الطلبات ومناولة البائع النقدية أمامها. تنظر طفلتها التي أظنها في الخامسة على أكوام اليوسفي وتصيح: عايزة سفندي! تكررها وتكررها حتى يحمر وجه الأم وتلكزها بكفها هامسة: ماحنا جبنا! فترد الطفلة بعفوية وبلا تفكير: لأ.. قولتيلي حنجيب النهاردة.. عايزة سفندي!

تأخذ السيدة بسرعة حفنة البلح الرخيص، وتخرج الجنيه للبائع، وتنصرف وهي توبخ الصغيرة وتكمل الكذب عليها. وأُخرج أنا ورقة المئة جنيه وأناولها له وآخذ الباقي وأحمل الأغراض للسيارة. وأفكر لحظتها لو أنني أسرعت خلفها بكيس اليوسفي.. ثم أخجل ولا أعرف كيف أفعلها.

أضع المفتاح في مكانه وأنظر إليه طويلا.. وأسرح.. وأتذكر الأولاد.. وأتخيل البنت الصغيرة تأكل ما تمنت من "السفندي".. ثم أتحرك بالسيارة.. وللعجب يتوقف الرشح فجأة.. ويخف الزحام.. فأسرع لألحق بصلاة المغرب.. فمن دعاني لها يستحق الإجابة بكل نفس أتنفسه..

وأظن أن يوما جيدا يبدأ الآن.

دلالات
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى