27 يوليو 2020
تأملات وسط كورونا
حسناً، مر شهران ونصف من الاحتجاز المنزلي وعشرات الكمامات ولترات الكحول وها أنا رغم ذلك أصاب بالكورونا من حوالي شهر. تجربة زاخرة لا تبدأ بالأعراض مهما كانت درجتها، بل تبدأ مع أول "لا حول ولا قوة إلا بالله" و"لا إله إلا الله" تسمعها من قريب أو صديق عندما يعرف بالخبر.
هنا تدرك أن الموضوع خطير وأن الناس يتوقعون موتك! احتمال قريب إذن! يا الله! كم نتأثر بالآخرين مهما ادعينا القوة والاستقلالية والانشغال بأنفسنا! وكم يرهبنا دنو الموت ولو لم يدل عليه غير حوقلات الناس!
زارت كورونا أسرتي رغم الاحتياطات، وكنت متأكدة أن هيستيريا التعقيم والغسيل والابتعاد غير كافية لصد جزئي ميكروسكوبي سابح بين الأنفاس والأيدي والأسطح كما يقولون. زيارة ثقيلة على كل اللطف الذي حملتنا به كالعادة. فأعراضنا كانت متفاوتة بين البسيط والمتوسط، ولم يتطور الأمر للهلع والمستشفيات، لكن العبء الحقيقي كان في القلق وقراءة ما يخص الموضوع وتعقيداته. ضع جانباً كل المآسي المتعلقة بتعامل النظام الصحي مع الأزمة، فلا أظنني بعد هذا العمر كنت قادرة على الانخداع بتقارير الوزارة وأعدادها، ولا بصور الإعلام وتغطياته الوردية، ولا باستفزاز المتفائلين ممن تغنوا بمساعدتنا للصين في تجاوز أزمتها! فالنظام المهترئ الذي انكشف عواره آلاف المرات في الأوقات العادية، لن ينصلح حاله فجأة في زمن الوباء. كم أتمنى لو احترموا عقولنا!
يقف عامل توصيل الصيدلية على بعد مترين من الباب مرتدياً الكمامة والقفازات، ويناولني طلبي بذراع مفرودة قلقة، ويحدثني بصوت عال حتى لا يضطر للاقتراب، فكل من يطلب (زنك وباراسيتامول) الآن يصنفونه مريض كورونا. لهم حق، لكنني أشفق على نفسي من النبذ ولو كان صورياً هكذا! حتى ولو كان من عامل الصيدلية! فأناوله الحساب بيد، وبالأخرى أحمل قارورة الكحول دليلاً على الاحتياط والتطهر، ولسان حال نظراتي له يقول: لا تعاملني كالموبوءة يا أخي! ثم أبتسم وأنا أرد الباب عندما أدرك أنني "موبوءة" فعلاً!
تتصل صديقة قديمة طالما عددتها ممن أحبهم من البشر. إنسانة طحنها الابتلاء بالمرض منذ الصغر فأشرقت به وزاد جمالها الإنساني لدرجة كنت معها أستصغر نفسي جداً مقارنة بها. وعرفت منذ عدة سنوات أن السرطان أضيف لقائمتها المؤلمة، فاعتصرني الإشفاق على ضعفها من علاجه وتوابعه. تتصل لتقويني على كورونا وتعتذر مرات عن تقصيرها في مساعدتي. فينقبض صدري وأنا أعرف تماماً كم أنني أنا المقصرة في التواصل معها وزيارتها. ثم تسألني عن فقد حاستي الذوق والشم والصداع وغيره من مستصغر الوصب، ثم أعرف أن الوحش اللعين عاودها في الرئة وأنها وسط معمعة الحقن والعلاج والإشعاع، فتطفر دموعي ويختنق صوتي وأنا أعتذر لها وأخبرها كم أحبها وكم قصرت في حق محبتي هذه. كيف بالله ألهتني توافه الحياة عن العناية ببشر في ندرة الذهب مثلك يا نهلة؟!
أمر بمرحلة ثقيلة من مكافحة الإعياء ومقاومة التعب ومراقبة من أكون قد نقلت له العدوى. مرحلة تغلب عليها الرؤية عن بعد بعدما رُفع الابتلاء بفضل اللطيف الخبير. أنظر لنفسي فيها وأتذكر دموع الليالي المرعوبة على الأحبة، ثم أنظر لسيل الألطاف التي لم تنقطع عني في حياتي يوماً، وأخجل من لطف الله أضعاف خجلي من لطف صديقتي واهتمامها بالرغم من تقصيري.
لا نتوقف طول الوقت عن ترديد الكثير من الكلام ونحن لا نعنيه حقاً. لم نختبر صدقه في أنفسنا، ولو فعلنا فغالبا لم نجتز الاختبار. لكننا لا نتوقف عن الاستشهاد بالآيات والأمثال والحكم للتأكيد على معان لم نجربها.
كم مرة واسينا غيرنا بمقولة أن في كل محنة منحة، فيما الحق أننا ترعبنا المحن وتفضح حقيقتنا ولا نخرج منها سوى بالمزيد من المظلومية والتيه والإشفاق على الذات من السخط الإلهي الذي لا نفهم سببه. كم منا يعتصره الابتلاء فيقطر زيته الثمين، وينجلي جوهره الرائق النقي فيقترب ويصفو؟ وكم منا تفتته البلوى وتطحن روحه ولا يخرج منها إلا بالكدر والابتعاد ولوم الله والناس؟ عملية فرز لا تتوقف، وصناديق لأصناف شتى تظل مفتوحة حتى النهاية. واللطيف في تتابع المحن وفتح الصناديق أنها فرصة وراء فرصة للمراجعة والسمو ومحاولة القفز لصندوق الطيبين.
عرفت بعض ذلك في السنين الأخيرة. اختبرته وعاينته وجربت فيه نفسي. راقبتها مرة بعد مرة وأدركت عيوبا حادة طالما أغفلتها أو حسبتها هينة. لكنني اكتشفت أيضا درجة ارتكان إلى الله لم أكن أتصورها ولا أدعيها. حسنة أظنها أصبحت الشيء الوحيد الذي أفخر به وأعرّف به ذاتي..فأنا هي تلك التي تحب أن تكون ممن عند الطحن يلتجئ. يا رب.
هنا تدرك أن الموضوع خطير وأن الناس يتوقعون موتك! احتمال قريب إذن! يا الله! كم نتأثر بالآخرين مهما ادعينا القوة والاستقلالية والانشغال بأنفسنا! وكم يرهبنا دنو الموت ولو لم يدل عليه غير حوقلات الناس!
زارت كورونا أسرتي رغم الاحتياطات، وكنت متأكدة أن هيستيريا التعقيم والغسيل والابتعاد غير كافية لصد جزئي ميكروسكوبي سابح بين الأنفاس والأيدي والأسطح كما يقولون. زيارة ثقيلة على كل اللطف الذي حملتنا به كالعادة. فأعراضنا كانت متفاوتة بين البسيط والمتوسط، ولم يتطور الأمر للهلع والمستشفيات، لكن العبء الحقيقي كان في القلق وقراءة ما يخص الموضوع وتعقيداته. ضع جانباً كل المآسي المتعلقة بتعامل النظام الصحي مع الأزمة، فلا أظنني بعد هذا العمر كنت قادرة على الانخداع بتقارير الوزارة وأعدادها، ولا بصور الإعلام وتغطياته الوردية، ولا باستفزاز المتفائلين ممن تغنوا بمساعدتنا للصين في تجاوز أزمتها! فالنظام المهترئ الذي انكشف عواره آلاف المرات في الأوقات العادية، لن ينصلح حاله فجأة في زمن الوباء. كم أتمنى لو احترموا عقولنا!
يقف عامل توصيل الصيدلية على بعد مترين من الباب مرتدياً الكمامة والقفازات، ويناولني طلبي بذراع مفرودة قلقة، ويحدثني بصوت عال حتى لا يضطر للاقتراب، فكل من يطلب (زنك وباراسيتامول) الآن يصنفونه مريض كورونا. لهم حق، لكنني أشفق على نفسي من النبذ ولو كان صورياً هكذا! حتى ولو كان من عامل الصيدلية! فأناوله الحساب بيد، وبالأخرى أحمل قارورة الكحول دليلاً على الاحتياط والتطهر، ولسان حال نظراتي له يقول: لا تعاملني كالموبوءة يا أخي! ثم أبتسم وأنا أرد الباب عندما أدرك أنني "موبوءة" فعلاً!
تتصل صديقة قديمة طالما عددتها ممن أحبهم من البشر. إنسانة طحنها الابتلاء بالمرض منذ الصغر فأشرقت به وزاد جمالها الإنساني لدرجة كنت معها أستصغر نفسي جداً مقارنة بها. وعرفت منذ عدة سنوات أن السرطان أضيف لقائمتها المؤلمة، فاعتصرني الإشفاق على ضعفها من علاجه وتوابعه. تتصل لتقويني على كورونا وتعتذر مرات عن تقصيرها في مساعدتي. فينقبض صدري وأنا أعرف تماماً كم أنني أنا المقصرة في التواصل معها وزيارتها. ثم تسألني عن فقد حاستي الذوق والشم والصداع وغيره من مستصغر الوصب، ثم أعرف أن الوحش اللعين عاودها في الرئة وأنها وسط معمعة الحقن والعلاج والإشعاع، فتطفر دموعي ويختنق صوتي وأنا أعتذر لها وأخبرها كم أحبها وكم قصرت في حق محبتي هذه. كيف بالله ألهتني توافه الحياة عن العناية ببشر في ندرة الذهب مثلك يا نهلة؟!
أمر بمرحلة ثقيلة من مكافحة الإعياء ومقاومة التعب ومراقبة من أكون قد نقلت له العدوى. مرحلة تغلب عليها الرؤية عن بعد بعدما رُفع الابتلاء بفضل اللطيف الخبير. أنظر لنفسي فيها وأتذكر دموع الليالي المرعوبة على الأحبة، ثم أنظر لسيل الألطاف التي لم تنقطع عني في حياتي يوماً، وأخجل من لطف الله أضعاف خجلي من لطف صديقتي واهتمامها بالرغم من تقصيري.
لا نتوقف طول الوقت عن ترديد الكثير من الكلام ونحن لا نعنيه حقاً. لم نختبر صدقه في أنفسنا، ولو فعلنا فغالبا لم نجتز الاختبار. لكننا لا نتوقف عن الاستشهاد بالآيات والأمثال والحكم للتأكيد على معان لم نجربها.
كم مرة واسينا غيرنا بمقولة أن في كل محنة منحة، فيما الحق أننا ترعبنا المحن وتفضح حقيقتنا ولا نخرج منها سوى بالمزيد من المظلومية والتيه والإشفاق على الذات من السخط الإلهي الذي لا نفهم سببه. كم منا يعتصره الابتلاء فيقطر زيته الثمين، وينجلي جوهره الرائق النقي فيقترب ويصفو؟ وكم منا تفتته البلوى وتطحن روحه ولا يخرج منها إلا بالكدر والابتعاد ولوم الله والناس؟ عملية فرز لا تتوقف، وصناديق لأصناف شتى تظل مفتوحة حتى النهاية. واللطيف في تتابع المحن وفتح الصناديق أنها فرصة وراء فرصة للمراجعة والسمو ومحاولة القفز لصندوق الطيبين.
عرفت بعض ذلك في السنين الأخيرة. اختبرته وعاينته وجربت فيه نفسي. راقبتها مرة بعد مرة وأدركت عيوبا حادة طالما أغفلتها أو حسبتها هينة. لكنني اكتشفت أيضا درجة ارتكان إلى الله لم أكن أتصورها ولا أدعيها. حسنة أظنها أصبحت الشيء الوحيد الذي أفخر به وأعرّف به ذاتي..فأنا هي تلك التي تحب أن تكون ممن عند الطحن يلتجئ. يا رب.