يوم الأرض وبيتها: ما قاله آذار في العائدين

29 مارس 2015
فؤاد إغبارية / فلسطين
+ الخط -

الظلال العائمة في نظرتها التي تقاوم الغرق في أسىً مُقيم ابتسمتْ، قبل أن تنحسر تماماً ويحلّ محلّها صفاء عجيب، صوتها المتكئ على عصا السنين صار قبضةً من عشبٍ وصبّار تلوّح في الهواء وتقرع جدران الخزّان. السيّدة الثمانينيّة التي تعامل الأسى بألفةٍ حانية ودلال كابن بيت مذ تسلّل بين الأجسام المدفوعة بفظاظةٍ إلى الشاحنة التي نقلت العائلة، وقد سُلِبَتْ كلّ شيء، من إقرث إلى الرامة، استجمعت أشجانها في صرخة واحدة هادئة:

"لمّا الشباب إجو لعندي، قلت بدّي أعلّمهم، طلبت منهم ياخدوا حفنة تراب عشان يفرجوها للجنود اللي سألوهم: شو بتعملو هون؟ قلتلّهم يقولوا للجنود إنوّ هاذا وطنّا، هذه الأرض معجونة بعرق أجدادنا...".

كان شابات وشباب الجيل الثالث من أبناء القرية المهجّرة في الشمال الفلسطينيّ قد عادوا إليها تزامناً مع ذكرى احياء النكبة فداهمهم الجنود وسألوهم: شو بتعملوا هون؟ عادوا ليواصلوا علاقة لم تنقطع إلاّ في الخيال المريض للمستعمر مع أرضٍ ولدتهم من جرحها وملحها وهواء ربّاهم على التنفّس الحرّ من رئة إضافية في عمق الهويّة، وعلى الرجوع المُثابِر للبلد التي لم تتخلّ عن الحياة بعد أن أخلي سكّانها منها ذات خريف بحجة الإجراءات العسكرية المؤقّتة ودمّرت لاحقاً تحسّباً لعودة ممكنة، بل حوّلت اسمها إلى مرادف  لبقاءٍ إعجازيّ في حزمِهِ وتماسكه الأخلاقيّ. الحقّ البسيط الواضح في مواجهة القوّة المدجّجة بالظلام.

بنفس الوعي الفطريّ  بالحق البسيط المرتقي إلى مفهوم العدالة الشعرية، كانت أمّ أديب منهمكة، بكلّ ما أوتيت من بلاغة أصحاب البلاد، بتوريث هذه العلاقة الذوبانيّة اليقينيّة بين الذات والأرض، بين الروح والجغرافيا، للجيل القادم.

كانت تورثها متضوعةً بعبق أسطوريّ نافذ إلى كلّ الحواسّ عرقاً ودمعاً، وقد أمسكت بالمعنى الهوميريّ للبيت (غايا) الذي يحيل إلى الملموسيّة والبديهيّة الترابيّة الحسّية للحيّز الجماعيّ الوشائجيّ الذي يدعى وطناً. وكانت أيضاً، إذ تعالج المسافة النازفة بين إقرث والرامة وفشل اللغة في التعبير عن الوجع الغامض للتهجير داخل الوطن، تستعيد سلطةً جيلية فقدت صوتها وأنهكتها الخسارات والحنين إلى الأرض فيها. وتقول في العائدين ما قال آذار.

دأبت الحركة الصهيونيّة، مستلهمةً في ذلك تقاليد كولونيالية مكرّسة في مشاريع التطهير العرقيّ والإبادة الثقافيّة الكبرى، على فكّ الارتباط العضويّ بين الفلسطينيين وأرضهم، احتلالاً ونهباً ومصادرةً، كفعل أوّل ورئيس في سيرورة التغييب وتأليب النسيان على السطو على الرواية ومن ثمّ تسكيتها وتفتيتها هباءً منثوراً في الثقب الأسود للتاريخ.

وما انفكّت الشهوة الاستيطانية المشوّهة تعيث في الأرض تمزيقاً منهجيّاً وبذيئاً لحبل السرّة بين الشجر وغارسه. بين اللغة وجذورها. بين الروح ومقامها. في الجليل كما في النقب. في يافا كما في القدس. في الماضي كما في الحاضر. في الواقع كما في المخيّلة.

لذا لم يكن إلاّ أمراً محتوماً، في تلاحمٍ قويّ ومتين بين الهوية والموادّ الخام التي تكوّنها، أن يبشّر "يوم الأرض" بالولادة السياسيّة الجماعيّة الأهمّ في سيرورة البقاء الناجز والفاعل للفلسطينيين فوق أرضهم الواقعة تحت نكبة دائمة ومتفاقمة، معلناً أن لا رجاء سياسيّ للذات الجماعية للفلسطينية الباقية في أرضها دون الاحتفال اليوميّ بيوم مولدها المعمّد بغضبٍ مُبْصِرٍ وشجاع، الاحتفال النضاليّ بمشروع حياة شامل تمتدّ تفاصيله الملهِمَة من التراب إلى التراب. ومن آذار إلى آذار.

(لندن)

دلالات
المساهمون