بعيدًا عن المُؤرقات المقلقات في المشهد الليبي، وإذا ما تجاوزنا الطارئ على المُجتمع المحليّ من سلوكيات قد تبدو غريبة للغريب أحيانًا، أشهد أن في الإخوة الليبيين طيبة وكرمًا واحتفاء بالضّيف ربّما يقل مثيلها في الأمصار الأخرى. هي شهادة اخترت أن ينطلق بها هذا النّص لما في الموضوع الذي أعتزم إثارته من حساسية، ورفعًا للحرج على الكلمات حتى تنساب بلا قلق.
لم تكن رحلة العودة إلى تونس بنفس اليُسر الذي كانت به رحلة الوصول؛ اضطررت لتأجيل موعد الطائرة بعد تعطّل إجراءات الحصول على إذن من المخابرات العسكرية لزيارة الجبهة في سرت؛ حيث تدور حرب ضروس بين البنيان المرصوص وما تبقى من جيوب "داعش"، ورغم التعويل على اتصال هاتفي للقيام بإجراءات التأجيل، سارت الأمور بعكس المُنتظر.
عند وصولي لمطار معيتيقة الدّولي، فوجئت بأن عملية التأجيل لم يتم تسجيلها في نظام شركة الطيران؛ ما اضطرّني إلى ترقّب انتهاء التسجيل ضمن قائمة الانتظار، عّلني أظفر بمقعد من المقاعد التي ستظل شاغرة، خصوصًا وأني كنت على رأس هذه القائمة.
انتهت عمليّة التسجيل الأصليّة وانطلقت عملية تسجيل من هم في قائمة الانتظار. ورغم أني كنت على رأسها، كنت أراقب بصمت كيف يتم التلاعب بالقائمة لتصعيد الأشقاء الليبيين على حساب التونسي الوحيد في صف الانتظار. عيل صبري، وانتبه لي أحد المسؤولين الذي يبدو أنه أُحرج، وأشار لي بالتقدّم، خصوصًا وأنه لم يعد في الطائرة سوى مقعدين، ومع تقديم جواز سفري وتذكرتي، تدخّل رئيس فرع الشركة في المطار ليعلن بأني سأنتظر الطائرة المُوالية (بعد 5 ساعات)، مُقدّمًا مُسافرَين ليبيين أتيا نصف ساعة قبل الإقلاع وبهذا ينتهى الشاهد الأوّل (طبعًا صارت أحداث احتجاجية لا تهم القارئ ولن تُضيف شيئًا لرسالة النص).
في تلك الظّروف، لم يكن أمامي إلا أن أنتظر السفرة التالية، وحرصت أن يتم تسجيل تأجيل السفرة حتى لا أقع في نفس الإشكال. حان الوقت، وقمت بالتسجيل وإرسال أمتعتي وتوجّهت لمصلحة الجوازات لأختم جواز سفري قبل التوجّه لقاعة الانتظار. قبل الوصول، طلب منّي أحد رجال الأمن في البهو جواز سفري فناولته إياه مُتعجّبًا باعتبار أن هذا الإجراء شملني دون غيري. تأمّل في الاسم واللقب وسحب من جيبه ورقة حوت أسماء ولمّا تأكّد من أنّي لست ضمنها سمح لي بالمرور.
بعد وصولي لشباك ختم الجوازات، وهو شباك خاص بالأجانب، خُتم الجواز ليستلمني أمني آخر ليستجوبني حول ما أتى بي لليبيا. إجابتي بأني صحافي لم تكن كافية على ما يبدو، فطلب مني إثبات ذلك ولم يكن بحوزتي بطاقة الصحافي، فأشار لي بالانتظار آخذًا جواز سفري لغرفة مُجاورة.
ولمّا طالت بي المُدّة وخشيت أن تفوتني السّفرة، اقترحت عليه أن يكتب اسمي في محرّك البحث غوغل ليجد لي نصوصًا مكتوبة ويطمئن قلبه. طبعًا كان اقتراحي مزيجًا بين الجدّ والهزل والحنق، خصوصًا وأنّي شعرت بأنه تم إلباسي ثوب "المُتّهم المُثير للريبة". وكان الأمر كذلك لأسلّم جواز سفري لاحقًا، ولأعلم بأن القائمة الأولى التي تم التثبت من عدم وجودي فيها خصوصًا بتونسيين مطلوبين لدى الجهات الأمنية الليبية. وينتهي هنا الشاهد الثاني.
في الحقيقة، ورغم أنّ الحرب لم تمنع عددًا كبيرًا من التونسيين من مواصلة العمل في ليبيا، كنت أشعر من خلال تجاذب أطراف الحديث مع ساسة ومسؤولين ليبيين، أو حتى مع عامّة النّاس في الأماكن العامّة، بأن الجنسية التونسية أصبحت مبعثًا للقلق لدى الليبيين، أو فلنقل لدى قطاع واسع منهم، خاصّة مع تواتر التأكيدات بأن أحد المُكوّنات الرّئيسية للجسم الداعشي في ليبيا هو المُكوّن التونسي، ما يجعل كل شاب تونسي زائر للتراب ليبي "داعشي مُحتمل" إلى أن يُثبت العكس.
وبغض النّظر عن المسألة الأمنية، يشعر الليبيون بأن التونسيين ينظرون لهم بنظرة دونيّة اختزلتهم في تلك الصّورة البدوية التي سعى القذافي دائمًا لترسيخها حول ليبيا (ما يُطلق عليه بعض الباحثين بدونة ليبيا)، أو في سلوك بعض الطّائشين من الشباب الليبي الذين يزورون تونس مُخلّفين صورة غير مُطابقة لحقيقة الشعب الليبي، وهو ما أسرّه لي شاب ليبي يدرس في بريطانيا، التقيته في قاعة الانتظار في المطار.
في الضّفة الأخرى، لا يبدو التونسيون أقل "عداء" لليبيين مع ضرورة التنسيب. ففي الجنوب التونسي الذي تجمعه ببعض القبائل الليبية علاقات تجارية راسخة وصلات قرابة دموية، تتكاثر الوقفات الاحتجاجية المُستاءة من التضييق الذي يجده التّجّار التونسيون من الطّرف الليبي الماسك بالمعابر الحدودية.
يتزامن هذا مع ما يشهده بحّارة الجنوب الشرقي التونسي من اعتداءات مُتكرّرة من خفر السواحل الليبي الذي وصل به الأمر في أكثر من مرّة لإطلاق الرّصاص على الزوارق التونسية، بل وصل الأمر لاحتجاز 50 بحارًا منذ ما يزيد عن عشرة أيام لحد الآن دون إطلاق سراحهم، وهو ما يُساهم في ارتفاع التوتر بين الجارين.
ههنا، تُجمّع أطراف المشهد مُتذكّرًا الهبّة الشعبية التونسية لمُساندة الشعب الليبي إبان ثورته على نظام العقيد معمر القذافي، عندما وجد مئات الآلاف، ولا زال، في تونس بلدًا ثانيًا يحتضنهم ويُؤويهم ويُكرمهم ويشُدّ أزرهم، وتتذكّر أيضًا ما مثّلته ليبيا للتونسيين من مساحة واسعة للعمل سواء في التّجارة أو في مجال الخدمات ناهيك عن علاقات النّسب، مُضيفًا ما تتغنّى به النّخب في البلدين من أن العلاقات بين الشعبين عميقة وضاربة في القدم، لتتساءل حول مصير هذه اللحمة وهذا الترابط في ظلّ مُستجدّات الوضع الإقليمي وتأثيرها على المناخات والأمزجة.
التونسيون والليبيون أشقاء بحكم التاريخ والجغرافيا، لكنّهم باتوا غُرباء في ما بينهم بحكم المُستجدّ من الأحداث وهو ما يطرح على نخب كلا البلدين عملًا دؤوبًا لتنقية الأجواء وإرجاع العلاقات والإنطباعات إلى سابق عهدها. ففي عصر التكتل، يُصبح من الحمق النّفخ في روح التّشتّت، وهو مايحتاج للعمل بجدّية على مشروع لترميم العلاقات بين الشعبين التي قد لا نلحظ التّشقّقات الصّغيرة التي شابتها بالعين المُجرّدة، لكنّها إذا ما لم تتم معالجتها ستتوسّع لتُصبح شروخًا ضريبتها عالية.