يوغوسلافيا السابقة... من جمهوريات المجازر إلى عهد العدالة

08 ديسمبر 2017
ربع قرن على أشرس حروب أوروبا (ديميتار ديلكوف/فرانس برس)
+ الخط -

الكثير من الأمور غير العادلة تحصل في عالمنا اليوم، خصوصاً عدم محاسبة الجزء الأكبر من المجرمين وأمراء الحرب في العالم، إلا في الحالة البلقانية. هناك يبدو مسار العدالة أكثر سرعة وديناميكية، ربما قد يكون ذلك لأسباب سياسية أو غيره، لكن المستفيدين إلى حدّ ما في محاكمات مجرمي الحروب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة، هم ذوو الضحايا في موستار وسربرنيتشا وساراييفو وغيرها من المدن، حيث أدت أفظع مجازر ما بعد انتهاء الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، إلى تحوّلها إلى ذكرى دموية في منطقة إقليمية، طالما كانت مفصلية في معظم محطات التاريخ الحديث، تاريخ ما بعد سطوع نجم السلطنة العثمانية، ثمّ النهضة الصناعية الكبرى في أوروبا.

العدالة المتأخرة لأكثر من عقدين في يوغوسلافيا السابقة، لم تكن مُهملة، بل بقيت كل دقيقة من آلام ذوي الضحايا متّقدة في انتظار الأحكام القضائية. وفي المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في لاهاي الهولندية (تأسست في 25 مايو/أيار 1993 على أن تنتهي مهمتها رسمياً في 31 ديسمبر/كانون الأول الحالي)، سقطت أسماء لم يكن يتوقع أحد سقوطها. يكفي النظر إلى لائحة مرعبة ممّن كانوا جلّادي يوغوسلافيا السابقة و"أباطرتها"، للدلالة على حجم الرعب الذي سيطر على أدق منطقة أوروبية من جهة، وعلى قدرة العدالة على استجلاب من تشاء في حال أرادت ذلك من جهة أخرى. 161 اسماً تورّطوا بدماء الأبرياء في يوغوسلافيا السابقة تمّ سوقهم إلى العدالة. ألقي القبض على هؤلاء على فترات عدة في السنوات الماضية، آخرهم رئيس جمهورية "صربيا كراجينا" السابق، غوران هادجيتش عام 2011.

145 متهماً من أصل 161 عُرفت هوياتهم علناً، 94 من هؤلاء كانوا من الصرب، و29 من الكروات، و9 من ألبانيا، و9 من البوسنة، واثنان من مقدونيا واثنان من مونتنيغرو. وظلّت جنسيات الـ16 الباقين غير معلومة. أبرز الأسماء كانوا، الرئيس الثالث لجمهورية يوغوسلافيا والرئيس الأول لصربيا خليفة يوغوسلافيا السابقة، سلوبودان ميلوسيفيتش، ورئيس "صربيا كراجينا" السابق، ميلان بابيتش، ورئيس جمهورية "صرب البوسنة" رادوفان كرادجيتش، والزعيم العسكري السابق لصرب البوسنة راتكو ملاديتش، والزعيم العسكري الكرواتي أنتي غوتوفينا، الذي تمّ اختياره "أعظم شخصية كرواتية في التاريخ"، وفقاً لمجلة "ناسيونال" الكرواتية، عام 2003. أمّا أكثرهم ضجيجاً، فكان القائد العسكري السابق لكروات البوسنة، سلوبودان برالياك، الذي وبطريقة مسرحية، تجرّع السمّ في لاهاي، في 29 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أثناء تثبيت الحكم بسجنه 20 عاماً، لدوره في مجازر بوسنية من سربرنيتشا إلى حصار ساراييفو.

برالياك رفض الحكم، واعتبر نفسه "غير مجرم"، لكن أسلوبه في القضاء على نفسه، ومراقبة أهالي الضحايا لذلك، بدا وكأن القتل الذاتي النابع من سحر الانتقام، كعادة متأصلة في البلقان، قادرة على شرح الكثير من التشابكات الإثنية والقومية والطائفية والسياسية في بلاد صنعت مجداً حقيقياً لها، ردحاً من الزمن قبل التواري خلف 6 جمهوريات مفككة، صربيا، وكرواتيا، والبوسنة والهرسك، وسلوفينيا، ومقدونيا، ومونتنيغرو،  فضلاً عن جمهورية سابعة باتت قاب قوسين أو أدنى من تثبيت استقلالها، كوسوفو.

يوغوسلافيا السابقة (1945 ـ 1992)، لم تكن مجرّد دولة رسّخت ركائزها إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، بل دولة أرست وجوداً مهماً في منطقة البلقان، كصلة وصل بين عوالم عدة: آسيا من جهة تركيا، والشرق السوفياتي، وجنوبي البحر الأبيض المتوسط، والغرب الأوروبي. محورية يوغوسلافيا كان بطلها جوزيب بروز تيتو الذي حكمها منذ عام 1953 حتى وفاته عام 1980، مساهماً في استيلاد منظمة "دول عدم الانحياز" عام 1956، مع شركاء عدة، لكسر القطبية الثنائية بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.

إثر انتهاء الحرب الباردة عام 1991، كانت الأزمة في قلب يوغوسلافيا تتفاعل. القوميات تنتفض وتثور على القومية الصربية، التي تحكّمت بمفاصل يوغوسلافيا. كان جلياً أن الأمور ستنفجر، فالأزمة السياسية المترافقة مع تضعضع اقتصادي، وبدء عهد النمو الأوروبي الغربي، وتفكك السوفييت، وانضمام ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية في إطار ألمانيا متحدة، كلها عوامل، دفعت كل جزء من يوغوسلافيا السابقة إلى "النفاذ بجلده"، ولو بالدم. فكانت حرب الأيام العشرة بين يونيو/حزيران 1991 ويوليو/تموز منه، التي أدت إلى استقلال سلوفينيا. ثم بدأت كرواتيا حربها الاستقلالية عن يوغوسلافيا (1991 ـ 1995). وكذلك الحرب البوسنية (1992 ـ 1995)، وحرب كوسوفو (1998 ـ 1999). في كل حرب منها كانت المجازر، ومنها سربرنيتشا في البوسنة والهرسك، بين 11 يوليو 1995 و22 منه التي قُتل فيها 8373 إنساناً، ومجزرة أهميتشي في البوسنة والهرسك في 16 أبريل/نيسان 1993، وقُتل فيها 116 شخصاً، ومجزرة ميركونييتش غراد، في البوسنة والهرسك، في أكتوبر/تشرين الأول 1995، وقُتل فيها 181 شخصاً، ومجزرة فوكوفار في كرواتيا، في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1991، وقُتل فيها 264 شخصاً، ومجزرة ميا في كوسوفو، في 27 أبريل/نيسان 1999، وقُتل فيها 300 شخص.

العدالة للضحايا في تلك المنطقة من أوروبا في غاية الأهمية لتاريخ أوروبي متجدد، خصوصاً أن الأحكام الأخيرة المتسارعة، تبدو مفيدة لمنع كثر من التفكير باستيلاد أزمات مماثلة تؤدي إلى جرائم حرب. الكراهية في أوروبا تزداد، وما حصل في بولندا الشهر الماضي، من مسيرة يمينية متطرفة، طالبت بـ"أوروبا بيضاء"، دليل على أن الصعود اليميني لم يتوقف بعد في تلك القارة. على الرغم من أن الانتصارات الانتخابية في بلدان مؤثرة، على اليمين المتطرف، لجمت الأخير عن الوصول إلى السلطة، إلا أنها لم تتمكن من تحجيمه. وضع أنجيلا ميركل في ألمانيا، نموذج واضح من ذلك. ربما كل ما تحتاج إليه "مشاريع المجرمين" في القارة العجوز، هو التحلّي "بشجاعة" سلوبودان برالياك، في لاهاي، وتجرّع السمّ قبل تدمير أوروبا، لا بعدها.
المساهمون