يموتون ووجوههم متجهة نحونا

13 ديسمبر 2015
(بشار الحروب)
+ الخط -

يمكن النظر إلى لوحات بشار الحروب الجديدة بشكل تقليدي باعتبارها نوافذ تطل على عالم الفنان الداخلي. ويمكن أيضاً فهمها كتصوير للجدران أو الحواجز، إذ تحجب واقع الاحتلال الذي ينجح يومياً في غزو حياة الفلسطينيين.

أما من ناحيتي، فإنني أقترح أن صفوف هذه الحشود من القتلى الذين يموتون ووجوههم متجهة نحونا، أمر متروك لنا. إنها في الحقيقة تقوم بدور أنواع معقدة من الشاشات.

هذه الأعمال، حرفياً، هي أشياء مادية بطبيعة الحال، لكونها لوحات - أو أي شيء آخر قد تكونه - فإنها تمثّل قطع ديكور من نوع ما. ولكونها أشياء للديكور، يتوجّب وضعها في مكان ما، حيث يمكن مشاهدتها والاستمتاع بها، سواء كأشياء مادية او كرؤى (لصرخات صامتة فضلاً عن أمور أخرى). هذه اللوحات قد تذهب أبعد من ذلك أيضاً؛ لتحجب، بشكل حرفي مشاهدة شيء آخر، حتى ولو كان ذلك الجدران التي علقت عليها فقط.

الأجساد في لوحات الحروب بتصنيفها وهزالها وخلوها من الشعر وهي تستدقّ في العدم، لتشكّل حجاباً متعدّد الألوان، شاشة من نوع آخر، ذات تاثير نفسجسدي هزلي أكثر من كونه مأساوي.

ثمة لوحات تفضح اللعبة هنا؛ حيث البورتريهات ستكون لمجموعة الضحايا الصغيرة في المخيم، بينما هي في الحقيقة أكثر شبهاً بغرباء في كتاب هزلي، تطفو بعيداً في فضاء مجرّد، فاقد للحياة وبلا هواء. هذه اللوحات ترفعنا بعيداً عن الواقع أكثر مما تسقطنا في أعماقه الوضيعة.

لدى التفكير في أسطح هذه اللوحات كهياكل جامدة، فإنها تمثّل بعض المقاومة، حيث أن الشاشات في أواخر القرن التاسع عشر، كانت تعني أيضاً أي سطح رقيق منبسط يجهز لاعتراض الطلقة في التجارب المدفعية. فالشاشة المثبتة على إطارات الأبواب أيضاً، تمنع غزاة كالبعوض والذباب وغيرها من دخول البيوت، تلك المخلوقات المحتشدة الساعية إلى احتكار مواردنا وغرف معيشتنا.

الشخصية المحورية في إحدى اللوحات تلقي ببعض التفاصيل التاريخية على هذه الأجساد الغريبة المشتتة، ترتدي خوذة جندي من حقبة الحرب العالمية الثانية. وإذا فكرنا في "تأثير الشاشة" هنا كشكل من التقسيم: تقسيم المساحة أو الفضاء إلى مناطق مختلفة (المساحة الفعلية والمساحة التصويرية أو الفضاء العقلي)؛ ما يخلق هنا مساحة من غير المحتمل أن تكون مساحة للبشاشة.

في لوحة أخرى، يحمل السكان الغرباء المسحوقون على رؤوسهم ثقلاً ما، يشبه كتلة كثيفة غير متجانسة من أغطية الفراش، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان معنى منتصف القرن التاسع عشر للشاشة، والتي تعني كتلة منبسطة غير ملساء من الصخر القديم، تلك التي تفصل ما بين اثنين من الاختراقات. اللين قد تعني السخيف أو الغبي، الفراش / الصخور في هذه اللوحة يبدو أو تبدو ناعمة وخفيفة، وتحمل هنا شكلاً من الطيش بدلاً من الكآبة. في لوحة أخرى، نلاحظ أحد الغرباء الأكثر خفة يطفو فوق مجموعة من أربعة أشخاص في الأسفل.

لوحات الفنان الفلسطيني هي أيضاً نوع من أنواع "الشاشات البصرية"؛ إنها تقدّم صورة لكنها ايضاً وبالضرورة تفلتر صوراً أخرى. وبهذا المعنى، فهي نوع بارع من الدروع المضادة للانحرافات البصرية الخبيثة. يتضّح هذا في لوحة يظهر فيها الغريب، ذو اللون الأصفر، فاغراً فمه، يحيط برأسه وكتفيه إطار صورة أو حواف طابع بريدي. الإطار داخل اللوحة يؤكد أيضاً فكرة الشاشة، بمعنى القناة أوالشاشة اللازمة لعرض صور الأفلام أو التلفزيون.

وجوه الغرباء في بعض لوحات المعرض تقدّم القليل من الأمور الحقيقية المحددة والتفاصيل غير القابلة للاختزال، وهي على هذا النحو عبارة عن صور لفكرة أو رؤية للهوية الفردية على الأكثر.

في حين أن هذا يمكن أن يفسر، مرة أخرى، كأمر مأساوي، إلا أنه يوحي بواقعية أكبر من حيث الميل القوي نحو الكاريكاتير في توضيحه الساخر الكوميدي. ولعل هذا هو السبب في أن هذه اللوحات (وألوانها المتوهجة) تذكّرنا بشطحات بيكاسو المصورة الحزينة في علم فراسة الوحش الشبيه بالإنسان، في فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين في وقت مبكر، وأيضاً خلال العقد الأخير من عمله في منتصف الستينيات.

إن كلمة "شاشة" تعني أيضاً التحقق أو دراسة شيء ما، وهي تشير في علوم الطب إلى التحقق من وجود مرض ما أو الخلو منه. ويُظهر العديد من لوحات بشار الحروب دواخل هذه الأجساد الغريبة وآثار أعضاءها الداخلية أو أشياء أقل احتمالاً؛ حيث تُظهر أحد اللوحات تفاحة في بطن الغريب.

إن هذه الأعمال هي نوع من دروس التشريح، ما يُعيد إلى الأذهان فيلم التشريح الوهمي الشهير للغريب والذي أُنتج في روزويل في نيو مكسيكو أواخر الأربعينيات، حتى إن هناك لوحة توحي بوجود نوع من عمل الأشعة السينية في غرفة مظلمة، وهي واحدة من اثنتين فقط من اللوحات في المعرض بهذا اللون للخلفية.

اللون الأسود هنا أيضاً، هو نوع من الرمزية التي تشير إلى المحاولة، أو القدرة على إخفاء شيء ما. أما في علم النفس فإن فكرة "ذاكرة الشاشة"، وكذلك على معنى إعادة تحديد القيمة، حتى أن لوحات بشار الحروب الجديدة البارعة قد استطاعت ان تؤدي نفس هذه اللعبة.


* Jonathan Harris مؤرّخ فنّي وناقد بريطاني

** ترجمة عن الإنجليزية: عبد الله أبو شرارة


اقرأ أيضاً: بشار الحروب: هياكل بشرية في انتظار المجهول

المساهمون