ياعيد لاتوﮔـف علينا... وگـلوبنا سودة وحزينة
بهذا النعي الفراتي تفتح أمّي باباً لعيدٍ آخر يأتي مثقلاً بالقهر والغياب، بنبرةٍ فراتيّة لاتخطئ الضيم، بنشيجٍ ينهلُ من فرات الرّوح، بغصّة تُجتثّ من أديم القلب، بأنّات كأجراس الحرمل تنثر يباسها في قيعان الكلمات الّتي لا تقول شيئاً يستحق عن الأمل، باحتضار اسمه الوقت الذي يترجح في "الرّقة" بين موتٍ يجيء بطيئاً، وحياة تغادر برشاقة غزالة أجفلتها بندقية الصيّاد؛ قفزت فوق تجاهل العالم، فوقعت في الجرح النازف بين رصاصةٍ في الساق وقفصٍ في محميّة اسمها الإرهاب.
أمّي على ضفة القهر وأنا على ضفّة الشتات، والرّقة بيننا، وبيننا أكثر من أربع سنوات، أكثر من عشرة أعياد، وبرسالة صوتيّة نقول فيها كلّ شيء، يضيع صوتي في المكابرة ويغيب صوتها في دعاءٍ لسماءٍ مطليّة بالقار، يرتدّ الدعاء مطراً أسود على صفيح قلب ساخن: "طبيبهم علاّ بالكويت.. لانحر حلالي وارهن البيت"
ثم تسقط في النشيج... تكابر، تستجمع قوتها وهي تخبرني أنّ هذا الغياب هو أفضل ما يمكن أن يحدث بيننا، تكزّ على أسنانها، تتنهّد قبل أن تلقي أمنية أخيرة: "العيد الجاي واحنا بالرقة ملتمّين".
عيد إثر آخر والوجع يكبر فوق المكابرة، يشحّ الكلام، تتكوّر الغصّة، يتضاءل الأمل، تتسع المسافة بيننا بما يكفي لنعيد بالصّمت تأثيث كلّ شيء؛ وجوه النازحين واللاجئين، وجوه إخوتي في المنافي، بيوتنا المهجورة، شرفاتنا التي ما عادت لنا، دروبنا الخالية من نداءات مكتظة بالتفاصيل، أصوات الناس المرهقة، نوافذ الجيران الموصدة، واجهات المحال المتعبة، أشجار حوشنا اليابسة، حطب الليمون والزيتون والنارنج، شواهد القبور المحطّمة، السواد الذي يفارق حقيقته بعباءة حَبَر وثوبٍ نيلي ليصير خمارًا يعرّي حقيقتنا، الأناشيد القادمة من ثارات الصحراء تشعل النار في بيادر المولية والعتابا الفراتية، الغرباء الذين أخذوا بيوتنا غنائم في حروب الردّة "نبهوا ذاكرتنا واستراحوا"، القتلة الذين أوغروا سيوفهم في رقاب أضحياتنا، لوّثوا القرابين بالموت؛ الموت الذي لا يفهم تأويل الدم!
لا عيد في هذا العيد أيضًا، لا رائحة الكليچة تفوح في حواري الرقة و"درْباتها"، لا غمزات تنقش وجه الكعك بالحديث اللذيذ، لا جلسات تجمع الضحك بالجدال بالتحيات الطيّبات أمام بيوتها، لا ثياب جديدة لأطفال يكبرون في السواد دون أن يميّزوا الفرح من القبح، لا أسلحة بلاستيكية تصمد أمام قهر السيوف والعمائم، لا أسواق تجمع الضوء بالظلال بالزحام بأصوات الباعة تنادي على الحلو والقهوة المرّة.
لا عباءات تنهب وجه الليل، تنسلّ من خدر السّحَر إلى "شُفاقٍ" يعلن العيد وعصافير الدوري تحفّ دروبهنّ إلى المقابر، لا أكفّ تلوّح بالمعايدة بين عابرتين على الطريق نفسه وإلى الغاية نفسها، لا أطفال يتقافزون، لا أمهات ينهرن بالخوف والشفقة لهو الصغار على طريق السيارات، لا "كديش" يركبونه باعتزاز طرفة بن الورد على طول سور الحديقة، لا مراجيح تلقي بهم إلى سماء قريبة مع ما جمعوه من "عيديات" و"سكاكر"...
لا باب لمقبرة "حطين" ندخلها بشوق الأحياء إلى ذاكرة الموتى، لا "جزء عمّ" في أكف اليتامى، لا دماء سوى دمائنا تنزف من وريد الأضحية في الضحيّة، لا صلوات تتجاوز تمتمة الشفتين فوق قلب ناشف ويد مغلولة!
يا عيد لا توگف على الباب ....والعيد وأهل العيد غيّاب
تكمل أمّي وهي تقف مستندة إلى عكازها، تفتح باباً في نزوحها، تفتحه موارباً للعائدين يوماً، لإيابٍ يملأ الفراغات المناسبة بالوقت والمكان والفكرة.
لا عيد في هذا العيد...
أنا على ضفة الشتات وأمّي على ضفة القهر
ولنا شوق الأحياء وذاكرة الموتى وبابٌ مُشرع على ألم المكان بيننا
وبيننا الرقة مقبرة بلا زائرين وقبور بلا شواهد!
(سورية)
أمّي على ضفة القهر وأنا على ضفّة الشتات، والرّقة بيننا، وبيننا أكثر من أربع سنوات، أكثر من عشرة أعياد، وبرسالة صوتيّة نقول فيها كلّ شيء، يضيع صوتي في المكابرة ويغيب صوتها في دعاءٍ لسماءٍ مطليّة بالقار، يرتدّ الدعاء مطراً أسود على صفيح قلب ساخن: "طبيبهم علاّ بالكويت.. لانحر حلالي وارهن البيت"
ثم تسقط في النشيج... تكابر، تستجمع قوتها وهي تخبرني أنّ هذا الغياب هو أفضل ما يمكن أن يحدث بيننا، تكزّ على أسنانها، تتنهّد قبل أن تلقي أمنية أخيرة: "العيد الجاي واحنا بالرقة ملتمّين".
عيد إثر آخر والوجع يكبر فوق المكابرة، يشحّ الكلام، تتكوّر الغصّة، يتضاءل الأمل، تتسع المسافة بيننا بما يكفي لنعيد بالصّمت تأثيث كلّ شيء؛ وجوه النازحين واللاجئين، وجوه إخوتي في المنافي، بيوتنا المهجورة، شرفاتنا التي ما عادت لنا، دروبنا الخالية من نداءات مكتظة بالتفاصيل، أصوات الناس المرهقة، نوافذ الجيران الموصدة، واجهات المحال المتعبة، أشجار حوشنا اليابسة، حطب الليمون والزيتون والنارنج، شواهد القبور المحطّمة، السواد الذي يفارق حقيقته بعباءة حَبَر وثوبٍ نيلي ليصير خمارًا يعرّي حقيقتنا، الأناشيد القادمة من ثارات الصحراء تشعل النار في بيادر المولية والعتابا الفراتية، الغرباء الذين أخذوا بيوتنا غنائم في حروب الردّة "نبهوا ذاكرتنا واستراحوا"، القتلة الذين أوغروا سيوفهم في رقاب أضحياتنا، لوّثوا القرابين بالموت؛ الموت الذي لا يفهم تأويل الدم!
لا عيد في هذا العيد أيضًا، لا رائحة الكليچة تفوح في حواري الرقة و"درْباتها"، لا غمزات تنقش وجه الكعك بالحديث اللذيذ، لا جلسات تجمع الضحك بالجدال بالتحيات الطيّبات أمام بيوتها، لا ثياب جديدة لأطفال يكبرون في السواد دون أن يميّزوا الفرح من القبح، لا أسلحة بلاستيكية تصمد أمام قهر السيوف والعمائم، لا أسواق تجمع الضوء بالظلال بالزحام بأصوات الباعة تنادي على الحلو والقهوة المرّة.
لا عباءات تنهب وجه الليل، تنسلّ من خدر السّحَر إلى "شُفاقٍ" يعلن العيد وعصافير الدوري تحفّ دروبهنّ إلى المقابر، لا أكفّ تلوّح بالمعايدة بين عابرتين على الطريق نفسه وإلى الغاية نفسها، لا أطفال يتقافزون، لا أمهات ينهرن بالخوف والشفقة لهو الصغار على طريق السيارات، لا "كديش" يركبونه باعتزاز طرفة بن الورد على طول سور الحديقة، لا مراجيح تلقي بهم إلى سماء قريبة مع ما جمعوه من "عيديات" و"سكاكر"...
لا باب لمقبرة "حطين" ندخلها بشوق الأحياء إلى ذاكرة الموتى، لا "جزء عمّ" في أكف اليتامى، لا دماء سوى دمائنا تنزف من وريد الأضحية في الضحيّة، لا صلوات تتجاوز تمتمة الشفتين فوق قلب ناشف ويد مغلولة!
يا عيد لا توگف على الباب ....والعيد وأهل العيد غيّاب
تكمل أمّي وهي تقف مستندة إلى عكازها، تفتح باباً في نزوحها، تفتحه موارباً للعائدين يوماً، لإيابٍ يملأ الفراغات المناسبة بالوقت والمكان والفكرة.
لا عيد في هذا العيد...
أنا على ضفة الشتات وأمّي على ضفة القهر
ولنا شوق الأحياء وذاكرة الموتى وبابٌ مُشرع على ألم المكان بيننا
وبيننا الرقة مقبرة بلا زائرين وقبور بلا شواهد!
(سورية)