يان أندريا.. رحيل العاشق الأخير

13 يوليو 2014
أندريا ومارغريت دوراس (1993)
+ الخط -

عُثر على الكاتب الفرنسي يان أندريا رفيق درب الكاتبة الفرنسية الشهيرة مارغريت دوراس ميتاً الخميس الماضي في شقته بباريس. اشتهر أندريا بعلاقته العاصفة مع صاحبة رواية "العاشق" (نالت بفضلها جائزة غونكور)، والتي لم يُشف من حبّها منذ رحيلها عام 1996.

تعود قصة اللقاء بين يان أندريا ومارغريت دوراس إلى مطلع السبعينيات عندما كان أندريا طالباً بشعبة الفلسفة بمدينة كان في منطقة النورماندي شمال فرنسا. قرأ بالصدفة رواية مارغريت دوراس "خيول تاركينيا الصغيرة"، وهي رواية قصيرة تحكي قصص حب يائسة بين أزواج يبذرون ما تبقى من الحب في الكحول، فافتُتِن بالرواية وبطريقة دوراس البارعة في التقاط ومضات الحب الهاربة. التهم بعد ذلك كل ما عثر عليه من كتب دوراس التي سقط في شراك حبّها عبر كتابتها، سقطة شبيهة بحكايات الحب الأول الجارفة. وانتهز أندريا فرصة حضور الكاتبة لعرض فيلم " إنديانا سونغ" "Indiana Song" المستوحى من إحدى رواياتها في مدينة كان، ليتجاذب معها أطراف الحديث وينجح في الحصول على عنوانها في باريس. أمطرها أندريا بكم هائل من رسائل الإعجاب لسنوات عديدة من دون أن يتلقى جواباً واحداً منها.

في عام 1980 رقّ قلبها لحاله، فأرسلت له عبر البريد مجموعة من آخر إصداراتها مع كلمة شكر. وفي صيف ذلك العام علم أندريا بتواجدها في مدينة تروفيل فطرق بابها. عن هذا اللقاء كتب أندريا لاحقاً: "شربنا نبيذاً أحمر. بقيت معها ولم أعد قط إلى بيتي. كنا وحيدين معاً. كنا في العمق كائنين وحيدين وحُرّين". وعن هذا اللقاء أيضاً كتبت دوراس في "رواية الحياة المادية" الصادرة عام 1987: "دخل متمايلاً من جهة الباحة الأمامية بجسمه النحيف. كان شاحباً ويمشي بسرعة. كان يعيش مرحلة اكتئاب. بدا عليه الخوف لكن سرعان ما تبدّدت مخاوفه. ثم أريتُه البحر".

هكذا إذن بدأت قصة الحب الغريبة رغم فارق ثمانية وثلاثين عاماً بينهما، هو شاب في الثامنة والعشرين وهي عجوز في السادسة والستين (مواليد 1914)، وعلى الرغم أيضاً، وهنا مكمن الاستحالة، من كون أندريا كان في وقتها مثلي الميول.

كان عشيقها وسائقها وحارسها ثم تحول إلى شخصية في رواياتها، بل إن ظله عبر كل كتابتها بشكل أو بآخر طيلة الستة عشر عاماً من عيشهما المشترك. كان أيضاً سكرتيرها الخاص، يكتب رسائلها ويدير علاقتها بدور النشر ومخرجي السينما ويرقن على الآلة الكاتبة ما تتلو عليه من كتابتها إلى الفجر.

كانت طاغية ومستأسدة في الحب. هي من تقرّر ماذا يفعل وماذا يشرب وماذا يأكل وماذا يلبس. غيّرت له اسمه واستبدلت اسم أبيه باسم أمه وتحول من يان ليميه إلى يان أندريا. ولم تخلُ حياتهما من الأزمات ونوبات الغضب الهستيرية التي كانت تنتاب مارغريت دوراس بشكل متقطع بسبب إدمانها المفرط على الكحول وغيرتها وشخصيتها المزاجية المتقلبة.

ورغم كل هذا لم يتخل عنها أندريا، بل بالعكس، أحاطها بالعناية الضرورية وحماها من المتطفلين وزعران الوسط الأدبي ووفّر لها الأجواء الضرورية للكتابة خاصة وأن دوراس بدأ يعتريها الوهن بسبب أمراض الشيخوخة. وبلغ به التعلّق حد مراسلة النقاد والإعلاميين الذين تناولوا إصدارات دوراس بالنقد السلبي متهماً إياهم بالعجز عن فهم عبقريتها الأدبية!

في عام 1983 أصدر أندريا كتابه الأول عن دار مينوي للنشر تحت عنوان "م. د." أي الأحرف الأولى من اسمها الشخصي والعائلي. كتاب ظهر فيه جلياً تأثره بأسلوب دوراس وتقمصه لعوالمها السردية. غير أن حسنة هذا الكتاب الأساسية تكمن في تفصيله لصعوبة اقتسام المرء الحياة مع الكُتّاب والمبدعين وحتمية التحوّل إلى ظل باهت وشبح خدوم في كنف دوراس إلى أن تتحقق المعجزة ويحقق ذاته عن طريق التضحية ونكران الذات.

هكذا إذن قبل أندريا بحبيبته العجوز وتحمل نزواتها وإدمانها إلى أن أسلمت الروح عام 1996. كان عمره آنذاك 43 عاماً. وبعد دفنها حمل حقيبة ملابسه وكتبه وعبر الشارع إلى غرفة كانت دوراس اشترتها له قبل سنوات، ومكث فيها سنتين كاملتين في عزلة مطلقة إلى أن انتزعته أمه منها وعادت به إلى منطقة النورماندي في الشمال ليستعيد عافيته بالتدريج.

ولأن الكتابة صارت قدره الشخصي ثابر أندريا وأصدر كتابه الأساسي "هذا الحب" الذي يعود فيه الى علاقته مع دوراس ويسبر فيه أغوار الحب المستحيل الذي جمعهما. والكتاب عبارة عن مجموعة من الرسائل كتبها أندريا كما لو أن دوراس لا تزال على قيد الحياة. وجاءت مقدمة الكتاب صريحة وبلا مواربة: "نعم، لي قناعة بأن خلال تلك السنوات لم أع شيئاً. كنت كالمخبول ولكن ذلك كان ضرورياً. وأنت ساعدتني وتركتيني وحيداً بلا مواساة ولا تشجيع. بدون أدنى كلمة لطيفة. وكأن الحب مجبر على أن يعاش بهذه القسوة التامة... كأننا أقل أهمية من الحب".

هكذا إذن عاش أندريا في ظل دوراس حية وميتة. حياة على شفير الهاوية الوجودية. مرهونة بخيط رفيع يصل الحياة بالكتابة والكتابة بالكآبة، إلى أن عُثر عليه في غرفته الصغيرة والمعتمة في زقاق ضيّق بحي السان جرمان جثة هامدة عن 63 عاماً.

المساهمون