ويسألونك عن اليتامى

04 أكتوبر 2015
كان عمري 25 حين توفي أبي (مواقع التواصل)
+ الخط -
كنت في الخامسة والعشرين من عمري حين توفي أبي، وبرغم أنني كنت متزوجة وأماً لطفلة، فقد شعرت بألم مختلف، ألم لم أجربه من قبل، إنه ألم فقدان السند والأمان. فما بالكم بشعور الطفل الصغير، عند وفاة أبيه أو أمه؟!


اعتدت طيلة عمري، عند رؤية أي يتيم، أن يذهب تفكيري مباشرة إلى التبرع المادي، والدعاء لهم وكفى، وأحسب أن هذا هو حال الكثير منا، عندما تلتقط أذنه لفظة يتيم، وربما كان هذا قصورا في فهم الحديث النبوي أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَلِيلا، فقد فهمت -كما فهم كثيرون- معنى الكفالة في شكلها المادي وحسب، ولكن اتضح لي أن الأمر أبعد من ذلك بكثير. أدركت ذلك عند وفاة زوجي، وانضمام أبنائي الثلاثة إلى فئة الأيتام!

أصبحت أرى تعامل المجتمع والأهل والأصدقاء معهم، من منظور مختلف، أصبحت أرى حجم الخطأ -غير المقصود غالبا- وأثره في أولادي، وأولاد العشرات والمئات من صديقاتي، بحكم أن الأيتام في العالم العربي وحده قد وصل عددهم لمئات الآلاف، في سنوات الربيع العربي الأخيرة.

وجدت أن اليتم كله ملّة واحدة!
لا فرق بين اليتيم ابن المسلم السني أو الشيعي، أو اليتيم ابن المسيحي أو اليهودي، كما أنه لا فرق بين اليتيم ابن الإخواني أو السلفي، أو اليتيم ابن الضابط، فالكل أيتام!

هذا الطفل غير مسؤول عن قضية والده ولا أفكاره، ومهما تعددت الأسباب واختلفت في تفسير موت الأب، فإن المحصلة واحدة، لقد صار هذا الطفل يتيما. وما أدراك ما اليتم؟

إليكم بعض الأمثلة الواقعية البسيطة في محاولة لتوضيح الأمر..

(1)
عند وفاة الأب أو الأم يلتفّ الأصدقاء والأهل حول اليتيم، ويغدقون عليه من الهدايا والحنان، ما يشعره أن الدنيا قد تفتحت له، وأنها ستصبح الجنة الموعودة الدائمة، ولكنه مع مرور الوقت يبدأ في إدراك الصدمة المؤجلة، حين يجد هؤلاء الملتفين حوله قد انشغل كل منهم بحياته، وأن هذا هو واقع الدنيا التي نحيا فيها، فلكل شخص أولوياته، والتي –وإن اختلفت- فإنها تتفق على تجاهل أبناء الغير، إلا تحت بند العطف والشفقة، والصدقات التطوعية كلما تيسرت سبلها.

بخلاف أن المبالغة في الاهتمام والرعاية، التي تحدث في الأسابيع الأولى، تجعل الطفل اليتيم في حالة من التدليل الزائد، ما يشكل بلاء جديدا، يضاف على كاهل الأم الأرملة، وهي التي تتحمل المسؤولية الكبرى، وتأمل بالكاد في أن تجد من يحنو عليها هي، ويحتويها ويخفف عنها.

(2)
عند وفاة الأب، فإنه لا يترك أطفالا أيتاما وحسب، وإنما أبوين ثاكلين، وزوجة ترملت. وبغض النظر عن الزوجة الآن، فإن هناك فارقا كبيرا بين طفل فقد أباه، وهو بعد غلام أو صبي حديث السن، يحتاج لأن يعيش طفولته وصباه، وبين أب وأم فقدا ابنهما، فتوقفت حياتهما عند ذلك، وصارا لا يقبلان من الدنيا سوى العيش على ذكراه، واجترار الأحزان والآلام، ما بقي لهما من العمر.

إنهما ينظران إلى حفيدهما اليتيم، فلا يبصران إلا أباه المتوفى، ولا يريدان من الأول إلا حديثا مستمرا عن أبيه، وتغنيا بأمجاده، أو بكاء لافتقاده، وهذا مطلوب في حدوده بالتأكيد، وله آليات وأساليب تتناسب وطبيعة شخصية الطفل وسنه.

غير أن استمرار الحديث عن الحزن والفقد، يجعل الطفل محصورا في دائرة من الأحزان، لا يخرج منها، وأرى هذا محض أنانية من الأبوين الثاكلين، يرضيان به هوى النفس، غير عابئين بقتل مشاعر احتياج الطفل للأمان، ورغبته في البعد عن آلام الفقد.


(3)
الزج بالطفل اليتيم في القضايا السياسية أمر بالغ السوء.

فهو غير مسؤول عن اختيار والده وفكره، ونحن بالكاد نسعى لإخراجه من دائرة آلام الفقد، إلا أن بعض الناس يستخدم اليتيم أداة لتسويق قضية، أو كموقف سياسي، ظنا منه أنه إنما يخدمه حين ينشر صورته بجوار صورة أبيه المقتول، أو رافعا لافتة مكتوبا فيها أريد دم أبي وحق أبي... إلى آخر هذه الدعايات، حسنة النية، أو سيئتها.

ولا يعرف هؤلاء أنهم يتسببون في الموت البطيء للطفل، ولأمه أحيانا، فإننا معشر الكبار لا نتحمل ذلك، فما بالك بالأطفال؟؟

هذه مجرد نماذج بسيطة من معاناة الأيتام، عاينت بعضها بنفسي، وسمعت بعضا آخر من صديقات لي كتب عليهن الترمل، وتحمل مسؤولية أيتام صغار، دون تأهيل، ودون سابق إنذار، بطبيعة الحال.

إن ما أفهمه من ديني وشريعتي، أن اليتيم يجب ألا يقهر، بأي معنى من معاني القهر، وأن أول صفة للمكذب بالدين هي أنه يدُعّ اليتيم، وهو الذي يقهر اليتيم ويظلمه حقه، ولا يطعمه ولا يحسن إليه، وفهمي لهذه الآية أن من لا يهتم بالحد الأدنى من حقوق اليتيم، لا يحقق عند الله الحد الأدنى من الإيمان، ويعتبر مكذبا بالدين نفسه، أما معاملة المجتمع لليتيم كبقايا إنسان، أو ضحية للقدر، فلا أجدها في الدين، وإنما أجد توجيها بدمجهم في المجتمع، "ويسألونك عن اليتامى، قل إصلاح لهم خير، وإن تخالطوهم فإخوانكم، والله يعلم المفسد من المصلح".. قال بعض المفسرين في معنى المخالطة هي جمع الأشياء جمعا يتعذر معه تمييز بعضها من بعض، وهي هنا مجاز في شدة الملابسة والمصاحبة، والمراد بذلك ما زاد على إصلاح المال والتربية عن بعد، فيشمل المصاحبة والمشاركة والكفالة والمصاهرة.

لقد تأخرت في فهم اهتمام القرآن الكريم باليتيم ومعاملته، حتى رأيت اليتم في أولادي، فرأيت نظرتهم لكل طفل ممسك بيد أبيه في الأعياد والمناسبات، وليس لديه هو سوى يد الأم، ولمست شعورهم في حفلات المدرسة أمام مشهد الابن يقفز في حضن أبيه، ولا يجد هو هذا الحضن، والكل غافل بطبيعة الحال عن هذه المشاعر، كما كنت طيلة عمري غافلة، حتى ابتلاني الله بهذا البلاء، فتغيرت نظرتي لليتيم.

ولا يدري أحد منا هل يبتلى يوما في أهله، أم يعافيه الله، ولكنني أحببت أن أساهم في نشر ثقافة التعامل الصحيح مع اليتيم، لأنه إذا ضاعت حقوق الأيتام والمستضعفين في مجتمع غالبيته من المسلمين أصحاب هذا القرآن، فاقرأ عليه الفاتحة.

(مصر)
المساهمون