وهم العُري

26 نوفمبر 2015
ضفة الوداع ترقب الريح (Getty)
+ الخط -

لست أخشى قبحي الظاهر الذي أراه كلما أقف أمام المرآة (عزلاء) لا سكين تحت إبطي ولا شفرة تحت لساني، لا أخفي يدي المبتورة ولا أخجل من رؤية أنفي المجدوع، بل أخاف قبحاً آخر تعرّيه الكتابة، يتكشف لي جسدي المثقل بالخطايا وتواقيع الغياب، وآثام الوحدة وما توسوس به للمنتظرين. ما زلت أذكر كم حجرا رميت في قعر الورق كي لا تشي بي خفته للمتلصصين على نوافذي الصدئة، نوافذ تعلم جيدا معنى أن يمارس قلبي الذوبان كلما لامس زغب المغيب ستائر غرفتي.

أنا السيئة التي تستفرغ قبحها على مساحة تتجاوز دفترا، قبحا أورثتني إياه لحظات مسروقة خلت أنها لن تعوض. سيئة لكنني مؤمنة جداً، مؤمنة أن لا شيء يستطيع تعويضي عن فوات فرصة ارتشاف الحب حتى النهاية، كقبلة خاطفة نلتقطها على محمل الماء، في تلعثم شفاه، في اقتفاء أثر عطر ترذذ في جيد المسافة، تلك لحظات حلوة تمر سريعاً.. خسر من لم يرو منها ظمأه.
أنا التي راهنت على الحب وقلت بأنه خلاص العالم من قبحنا نحن المسوخ الجميلين بكذباتنا، وخلاصي من تعب أنهكني وجعلني طريحة ليل يمر من فوقي باردا كلسعة صقيع، آمنت أن الحب يشذبنا، ينزع أشواكا زرعتها الخيبات في صدورنا كألغام ... ولقبح ما لم أستطع تفاديه،
خسرت الرهان.

كـ لا شيء يطفو الدمع على وجنتي، ولست أدري أهي جمرة تسيل أم جرح سكب فيه ملح، كل ما أعرفه أنني حين أمسكت بالقلم أقسمت كثيراً على أن أتطهر من الرزايا ومن معاصي العتمة، كان ظلي يجلس بجانبي يسندني رغم ارتباكه وصوتي الذي شاخ في حاكورة الصمت يربت على فمي يومئ لي بالحروف.

كانت لي عيون كثيرة قسمتها إلى ضفتين، عيوني الشاخصة في الفراغ كأنها فوانيس مطفأة في بركة راكدة ظلت على ضفة الوداع ترقب الريح، وعيوني الأخرى المتسعة أحداقها كالجحيم عالقة في عنق السؤال، تحصي ديدان جثث متعفنة خلفها حب خبيث ظلت تحتطب آثاما جديدة لتبني جحيما يليق بخيالي.

حين أكتب أقترف عريا فصيحاً، أخبئ صرخة تحت جلدي، أجعل من عظام خصري حوضا للتماسيح وأدق في قعرها مسامير تثبتني في وهمي، أنتعل في وضح البوح ظلالا مشجرة، أجز بكتفي الحادة كما السيف أغصاناً نمت على شكل دعاء صاعد، أطير أحلاما يتيمة من أعشاشها وأرميها على قارعة الغيب لتنهشها ذئاب تلثغ بكلام فاخر، ذئاب تجيد تمييز مذاق اللحم الطازج الذي يثير فيها شهية مطاردة الفرائس سيئة وقبيحة بما يكفي لتعريني الكتابة، ليجعل مني القلم ضريحا محشوا بالغبار، وتصفعني الأسطر عن زلات وذنوب اقترفتها عن قصد.


(تونس)

اقرأ أيضاً: صرخة

المساهمون